لبنان وصندوق
النقد الدولي، عنوان المشهد القادم عل الساحة اللبنانية، بكل تفاصيلها السياسية والاقتصادية والمالية. كيف لا والحكومة قد أقدمت على طلب مساعدة صندوق النقد الدولي، بعدما أجمع الخبراء على قبة الباط وغض البصر من
حزب الله بالسماح للتوجه إلى صندوق النقد، وبعدما رفض على لسان مسؤوليه مرات عدة هذا التوجه. فبحسب البعض، غدا الحزب محرجا خاصة بعدما طلبت إيران مساعدة صندوق النقد الدولي مؤخرا، مما فتح السجال مع العديد من القوى الفاعلة على الساحة اللبنانية والمؤيدة لهذا التوجه، حتى إن البعض يرى ما جرى مع العميل الفاخوري أنه بداية إشارة إيجابية من الحزب تجاه الأمريكيين، الذين يشكلون عصب القرار في صندوق النقد.
ولكن السؤال يحضر هنا مع بلد شبه منهار ماليا، حيث عجز الموازنات المتراكم في السنوات الخمس الأخيرة بلغ 26 مليار دولار أمريكي، مضافا إليه عجز ميزان المدفوعات بما يقارب 56 مليار دولار أمريكي، وتضخم هائل بلغ بالمتوسط 50 في المئة، وكأني بأسعار السلع الاستهلاكية والتموينية تطير بين ليلة وضحاها، حتى ظننت أن أسعار الجلاب باتت تتداول في سوق نيويورك للأسواق المالية، فبات التندر حال اللبناني عندما صار سعر الجلاب في السوق المحلية أغلى من سعر النفط في الأسواق العالمية. أما البطالة، فقد قاربت 45 في المئة بحسب الكثير من التقارير الدولية، ومعدلات الفقر تقارب 48 في المئة، مع انكماش
اقتصادي يقارب 20 في المئة، ودين عام فاق 92 مليار دولار أمريكي، ناهيك عن مؤشرات الفساد وعدم انتظام الدولة والهدر الفاضح، والفائض القاتل في موظفي الدولة، وخدمة الدين الهائلة بما يقارب ستة مليارات دولار سنويا، وأخيرا وليس آخرا حديث وكالات التصنيف الائتماني بعد التخلف عن الدفع للسندات اللبنانية في شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل المنصرمين، وتصنيف لبنان بالدولة المفلسة إراديا (Selective Default..) وتترافق مع كل ذلك ضغوط سياسية محلية وإقليمية ودولية، حتى وصلنا إلى قصة إبريق الزيت القادمة مع صندوق النقد الدولي، ووصفاته المجربة من أقصى دول أمريكا اللاتينية وصولا إلى قاهرة المعز في مصر الحبيبة.
إن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يرغب فعلا البنك الدولي بمساعدة لبنان؟ تجيب على السؤال السيدة كريستينا جورجيفا، ومعها السيد فريد بالحاج، والمستشار كومار جاه، وكل العاملين في صندوق النقد الدولي: نعم عريضة.. ولكن!
هذا الاستدراك (لكن) يحمل عدة أمور، تتراوح ما بين الأوامر والشروط والإملاءات، وماذا بعد من التسميات التي يصعب في مكان ما لبنانيا تقبلها والسير بها، وهي تبدأ أولا بتطوير النموذج اللبناني السياسي الذي أصبح من الماضي بكل ما يحمله من فساد وهدر وتبديد للأموال العامة. وعليه لا بد من نموذج جديد يتلاءم والرؤية الدولية القادمة.
وثانيا، صرّحت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كريستينا جورجيفا، بأن الصندوق الذي يرسل فريقا إلى لبنان بعد طلب المساعدة في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، وإقرار الخطة الاقتصادية التي ضجت بها ومنها القطاعات الأساسية في البلاد، لا سيما المصارف والصناعيين والتجار؛ "سينظر في المساعدات المالية إذا كنا مقتنعين بأن هناك جدية في النهج الذي تتبعه الحكومة"، وهو ما يمكن اعتباره إشارة ثانية بكل وضوح تفرض على السلطات اللبنانية أن تلتزم بها.
ثالثا، الكل يدرك أنه أينما حل صندوق النقد الدولي حلت معه الضرائب، التي في أغلب الدول السابقة أوجعت الطبقات الفقيرة والمعدمة، وزادت الفقير فقرا، وقضت على الطبقة الوسطى. وعليه، ما ألوان الضرائب القادمة على رؤوس اللبنانيين؟
رابعا، وحتى قبل أن يفرضوا شروطهم في تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية، غدونا عمليا نتحدث عن أسعار شتى للدولار الأمريكي، حتى إنه بلغ ما يفوق 4200 ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء، فما بالكم بعدما تفرض من صندوق النقد: هل تحلق العملة الخضراء أعلى في ظل شح الدولارات في البلاد وقلة الدولارات القادمة بسبب كورونا من جهة، وقلة ثقة لبنانيي الخارج في إرسال أموال جديدة أو ما يعرف بـ"Fresh Money" من جهة أخرى؟
خامسا، ماذا عن الإصلاحات في القطاعات الحيوية كافة، من الكهرباء إلى الموارد المائية والاتصالات؟
سادسا، ماذا عن الخصخصة أو الخصخصة الجزئية والشراكة بين القطاع العام والخاص؟
سابعا، ماذا عن القطاع العام المترهل والكبير والمحشو بالتوظيفات العشوائية والنفعية، ورواتبها المتضخمة بفعل سلسلة الرتب والرواتب التي أقرت على أبواب انتخابات 2018 وأرهقت المالية العامة؟ كلها متطلبات اقتصادية وإدارية على المسؤولين اللبنانيين تحضير إجابات شافية للمانحين والداعمين الذين ينشدون الإصلاحات الاقتصادية البنيوية.
ثامنا، وهو الأهم والأخطر على مستوى البلاد كاملة: ما هي الأثمان السياسية التي تود أن تفرضها أمريكا من خلال صندوق النقد، والتي هي سمة ثابتة لدى الصندوق؟ فعرف الصندوق دائما يقول: لا شيء بالمجان.
وما كلام وزير الخارجية الأمريكي إلا دليل واضح على الرقص حافة الهاوية داخليا وخارجيا، ونقطة الصراع القادمة داخل الحكومة اللبنانية التي تنشد المساعدات، حيث لفت الوزير الأمريكي إلى أن "الشعب اللبناني تظاهر في الشارع قبل وباء كورونا مطالبا بالشفافية والعدالة وإبعاد الفساد السياسي عن عمل الحكومة. وقد كنا واضحين في القول إننا على استعداد لمساعدة حكومة في لبنان مستعدة للتجاوب مع مطالب الشعب"، معتبرا أنه "أمر غير طبيعي أن تمارس منظمة متهمة بالإرهاب نفوذا في الحكومة، يضر أو يؤثر سلبا على الشعب اللبناني. فلبنان بلد لديه تقليد طويل من العمل الديمقراطي، وهذه الديمقراطية هي ما يطالب به الشعب اللبناني". ومن ثم هي دعوة صريحة إلى صدام داخلي مع حزب الله الذي ارتضى مساعدة صندوق النقد تحت شعار عدم المس بمقتضيات السيادة.
لقد ضغطت واشنطن على كل الحلفاء لتنفيذ أجندتها في لبنان، وأعلنت ذلك جهارا نهارا، حيث أكد الوزير بومبيو أنه "بمقدار ما تظهر الحكومة تجاوبا مع مطالب الشعب، فإن التحديات المالية التي يواجهها لبنان اليوم هي أمر سنأخذه بجدية وإلحاح كبيرين. ولن نقدم المساعدة نحن فقط، بل سنبذل جهدنا من أجل أن تفعل بالمثل دول في المنطقة، وكذلك دول أوروبية نحن على تشاور مستمر معها. سنكون هنا من أجل دعم لبنان حين تظهر الحكومة والقيادات اللبنانية استعدادا للتجاوب مع ما يطالب به الشعب اللبناني".
من الواضح أن لبنان يريد طوق نجاة من أزمته الاقتصادية التي تقض مضاجع اللبنانيين ليل نهار، وباتت تنذر بثورة اجتماعية عنوانها البطون الجائعة والجيوب المفلسة، في أول فرصة بعد انتهاء التعبئة العامة ضد فيروس كورونا.
إن الأثمان المقترحة دوليا قد لا يستطيع البلد الهش تحملها، من ترسيم الحدود إلى صفقة القرن وتوابعها، وخرائط الغاز المتشعبة في شرق المتوسط، وغيرها كثير من قضايا الإقليم الملتهب.
ببساطة: لبنان إلى أين؟ والعلاقة مع صندوق النقد من يحكمها؟ وكم ستكون الأثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
أخشى أن يكون حال لبنان مع صندوق النقد الدولي كحال العلاقة بين الدولار والليرة؛ التي يحق لنا أن نبكي على حالها وهي تحتضر أمام أعين المعنيين، ولا تجد الطبيب المداوي.