كنت في أستوديو
"الجزيرة مباشر"، وفي فاصل بين فقرتين، عندما سمعت، قبل أن أرى، هذا
الصوت الذي ذكر بطريقة عسكرية حاسمة ومزلزلة اسمه ورتبته، وبأنه "
مقاتل على خط الجمبري". وقد اعتقدت للوهلة الأولى، أنها فقرة فكاهية، وأنها مقطع لفيديو
أراد صاحبه أن يسخر من الجيش، قبل أن أنظر لأرى حيث الأصوات، فهذا "مقاتل على
خط البلطي"، ويليه "مقاتل على خط السمك الذريعة"، إلى آخر ذلك.
وقد أيقنت ساعتها أن الأمر
جد وليس بالهزل، وإن لم تعقد الدهشة لساني، كما يقال تعبيراً عن هولها، فقد اعتدنا
من النظام العسكري الحاكم في
مصر، على كل ما هو مدهش، حتى فقدت الدهشة معناها،
وصار الهزل هو عنوان المرحلة، وتجاوز بنا المساخر التي حدثت في التاريخ وكنا نسمع
عنها غير مصدقين، مثل هذا الحاكم الذي حرّم الملوخية، ونحو ذلك. لعل الأجيال
القادمة تسمع عن المرحلة التي عشنا فيها، فلا ترانا نستحق منها سوى الازدراء
والاحتقار لأننا عشنا في هذه المرحلة، وقد صار الجنون فيها فنوناً، وتعايشنا مع
المساخر، باعتبارها أمراً يمكن لنا أن نستوعبه لأنه صار من
سلطة فقدت الرشد والعقل
في حادث أليم!
رسالة عسكرية:
وعندما طالعت رسالة تفيد بأن
الحاكم العسكري في مصر،
قرر تحويل الصيادلة إلى أطباء بشريين بعد اجتيازهم دورات
معينة، لم أصدق في البداية، رغم اطلاعي على خطاب تعلوه هذه الكلمات: "وزارة
الدفاع، الأكاديمية الطبية العسكرية، رئيس الأكاديمية"، وموقع من "لواء
طبيب أحمد حسن فوزي التاودي- رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية". فقد نظرت إليه
على أنه كتاب مزور، أراد من زوره أن يسخر من وزارة الدفاع، في سياق
السخرية من
الحكم العسكري بشكل عام، ولهذا لم ألتفت إليه في البداية، لولا أنني فوجئت بعد يوم
أو بعض يوم، على موقع نقابة
الأطباء برد من النقابة يعتذر عن ذلك، ويرفض الفكرة
شكلاً وموضوعاً. فهالني في هذه المرة الوصول إلى هذا المستوى من فقدان العقل
والرشد، لا سيما بعد أن تأكدت من أكثر من مصدر بأن الخطاب صحيح، فموقع النقابة نشر
الرد ولم ينشر أصل الجريمة!
في خطابها دعت الأكاديمية
الطبية العسكرية، التابعة لوزارة الدفاع، نقيب الأطباء الدكتور حسين خيري،
"لحضور اجتماع لمناقشة وعمل دراسة لإمكانية تحويل الصيادلة إلى أطباء
بشريين"، لتكتمل الملهاة، وبما يتجاوز دور اللواء طبيب أحمد حسن فوزي
التادودي، رئيس الأكاديمية وصاحب الخطاب. فقد جاء في الدعوة: "طبقاً لتوجيهات
السيد رئيس جمهورية مصر العربية القائد الأعلى للقوات المسلحة". وموعد
الاجتماع المقرر في الخطاب هو "يوم الأربعاء الموافق 6 مايو 2020 الساعة
الثانية ظهراً بمقر الأكاديمية الطبية العسكرية"!
خارج العقل:
وهو الأمر الذي مثّل سابقة،
هي الأولى من نوعها، لم يسبق القوم اليها إنس ولا جان، أو حاكم موصوف بالخفة في
العقل، مثل من سبق للرئيس السادات بأن وصفه بـ"الولد المجنون بتاع
ليبيا"، أو المجنون نسبياً في كوريا الشمالية!
ذلك بأن الأمر لا يحتاج إلى
توفر نسبة مرتفعة من الذكاء، للحكم على أن هذه التوجيهات هي خارج القدرة على
الاستيعاب. ويعد أي كلام هنا يقال يدخل في باب البديهيات، ويجعل من ذكرها انسياق
وراء حالة الجنون التي تحكم مصر، مثل القول بأن الصيدلة والطب البشري مهنتان
مختلفتان، بحكم الدراسة والتخصص، وأن الصيدلي في حالة التحول لا يحتاج فقط إلى
كورسات مكثفة، ليكون مؤهلاً للعمل طبيباً بشرياً، ولكن يلزمه أن يلتحق بالسنة
الأولى لكلية الطب!
وقد مثل رد نقابة الأطباء
وضع النقاط فوق الحروف، وكشف العوار في هذا التوجه الكاشف عن غياب الاتزان النفسي.
فلم يكتف الرد برفض المقترح تماماً، ولكن حرص على التأكيد بأنه يضر بصحة المواطن
المصري، حيث أنه من المعلوم بالضرورة أن كل فئة من فئات الفريق الطبي لها دور هام
جدا تقوم به فعلا، وتمارسه طبقاً للأصول العلمية والمهنية وطبقاً لنوعية الدراسة
النظرية والعملية التي درستها لسنوات طويلة، ولا تستطيع فئة أن تحل محل الفئة
الأخرى، ولا يجوز القول بأن دراسة مكملة يمكنها معادلة شهادة علمية وعملية مختلفة!
ثم يوضح كتاب النقابة أن
هذا المقترح سيضر بسمعة مصر الطبية والعالمية، حيث أنه لا توجد أي سابقة لذلك في
تاريخ مهنة الطب الحديث. وبالتالي على من يرغب في امتهان مهنة الطب وأن يكون
مسؤولا عن أرواح المصريين؛ فعليه أن يلتحق بالسنة الأولى من كلية الطب البشري،
وبعد تخرجه وتدريبه يتم منحه ترخيصا لمزاولة مهنة الطب!
وهو رد شجاع ومفحم، وربما
وجد النقيب والأمين العام للنقابة أنفسهما مضطرين لذلك، لتوضيح الأمر، لإخلاء
مسؤوليتهما أمام الأطباء وأمام التاريخ، لمواجهة هذا العبث الذي تم "بتوجيهات
السيد رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة"، على النحو الوارد في
كتاب رئيس الأكاديمية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع. ولم يكن الأمر بحاجة إلى
التذكير بأن السيد رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، فهذا أمر
متعارف عليه ومفروغ منه، إلا إذا كنا إزاء قرار عسكري، أو لإعلان الحرب، وربما كان
التذكير بالمنصب العسكري الكبير هو لإرهاب النقابة، لتمرير هذا الجنون!
العجز في الأطباء:
لقد حاول البعض تفسير هذا
المقترح، بأنه كاشف عن وجود
أزمة خاصة بانتشار فيروس كورونا، لنقص في أعداد
الأطباء. وهذا في تقديري ليس هو السبب، لأن
السيسي ليس معنياً بانتشار الوباء،
وليس مشغولاً بالحد منه، فيقدم المستلزمات الطبية لعدد من الدول الخارجية الغنية،
مع أن المصريين في أمسّ الحاجة لذلك، ثم عنده أكثر من حل لمواجهة العجز؛ إن وجد
أهون هذه الحلول إخراج ستة آلاف طبيب معتقل للمساعدة في المهمة، والحفاظ على
الطواقم الطبية الحالية وهو الأمر غير القائم!
لكن الأزمة في الإحساس الذي
يتملكه بأنه أعلم أهل زمانه، وأنه فلتة جيله، ومفكر عصره، وأذكى إخوته، وأنه القائد
الملهم، والنبي الذي هو من أولي العزم من الرسل. ألم تقف إلى حركته وهو يشير بذاته
إلى ذاته ويتلو قوله تعالى "ففهمناها سليمان"، وقوله إن الدنيا كلها
تسمع له وتلجأ إليه لحل مشكلاتها!
إنه التجسيد العملي لمعنى
الحالة المستعصية!
twitter.com/selimazouz1