تشارك الولايات المتحدة الأمريكية بقوات قوامها كتيبة مشاة قوامها 425 جنديا في القطاع الجنوبي لانتشار القوة المتعددة الجنسيات في
سيناء، في الجورة، بالإضافة إلى 235 موظفا مدنيا للدعم، يتشكلون من أطباء ومتخصصين في الألغام الأرضية، بالإضافة إلى مراقبين لتنفيذ الاتفاقية المبرمة بين
مصر والكيان الصهيوني في 1979، والتي أنشئت بمقتضاها قوات حفظ السلام في عام 1982 بعد تنفيذ مراحل الاتفاقية. وتضم قوات حفظ السلام إلى جانب أمريكا، كلا من إيطاليا وفرنسا وهولندا والنرويج وكندا وأستراليا وكولومبيا والعراق والمجر ونيوزيلندا وفيجي.
الحديث عن قوات حفظ السلام برز مجددا مع حديث وسائل إعلام أمريكية، عن أنباء تفيد بسعي وزير الدفاع مارك إسبر، لسحب 400 جندي من قوات حفظ السلام الدولية في سيناء. ومع معارضة كل من وزارة الخارجية الأمريكية ونظيرتها في تل أبيب، فإن ذلك يطرح سؤالا جوهريا بشأن ما يضير الخارجية في الكيان المحتل إن كانت العناصر المنسحبة من قوام قوات حفظ السلام.
فقوات حفظ السلام بالأصل لا تتبع لأي دولة، وإنما هي تتبع إجرائيا للأمين العام للأمم المتحدة، ويكون سحب القوات بتنسيق مع الأمانة العامة، ومن ثم يتم استبدالها بقوات من دولة أخرى لضمان سير عمل تلك القوات في المجمل على الوجه الأحسن.
لذا، يجب طرح السؤال على النظام في مصر: هل القوات التي تعمل في سيناء كلها قوات تابعة للأمم المتحدة؟ بمعنى أدق، هل لأمريكا قوات غير تلك المنخرطة ضمن قوات حفظ السلام الموجودة في الجورة في سيناء؟ ومن ثم كم عدد تلك القوات، إذا كان المعلن أن تلك القوات لا تتجاوز الـ425 جنديا، فماذا يتبقى منها إذا سحبت واشنطن 400 منهم؟
ولأن الأمر أقرب إلى سر التحنيط، الذي لا يطلع عليها إلا كهنة المعبد، فإن النظام المصري بالنتيجة لن يجيب، لأن مبدأ الشفافية غائب بالكلية عن مفاهيم الإدارة لدى نظام يوليو في أبسط الأمور وفي أهمها على حد سواء، لكن تبقى التساؤلات مطروحة في ظل المعلومات المتوفرة، فأمريكا التي تسحب قواتها من سيناء بحجة تقليل النفقات ومراجعة الجدوى، دفعت ما يقارب الـ14 ألف جندي للخليج خلال الشهرين الماضيين لمواجهة الخطر الإيراني المزعوم، فإن كان التحليل يذهب إلى استثمار القوات في مناطق جلب المليارات، وأن الخطر المتعاظم لإيران يقابله مخاوف أعظم من قبل السعودية، وهو ما يفتح خزائن المملكة النفطية أمام جامع المال الأمريكي.
هذا الطرح يعني في المقابل أن سيناء لا تمثل شيئا بالنسبة لأمريكا، ليس فقط على مستوى المنفعة الحدية، بل على مستوى المخاطر والتهديدات. فالنظام في مصر الآن على وفاق كامل مع الكيان الصهيوني، هذا الوفاق جعل الأخير يسمح لقوات النظام المصري بالتوغل بمدرعات وطائرات في مناطق عمليات المنطقة (ج) في البروتوكول الأمني لاتفاقية السلام، وهي المنطقة التي كان محرما على الجانب المصري التوغل فيها.
وفي المقابل، وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن قوات الاحتلال تنفذ غارات جوية في عمق سيناء بموافقة القاهرة منذ العام 2016، والتي أحصت حتى عام 2018 ما يزيد على الــ100 غارة لطيران الاحتلال، والعدد بالنتيجة في تزايد. فالتعاون بين الجانبين على أعلى مستوى ويعيش عصره الذهبي بعد فترة فتور منذ ثورة يناير وحتى الانقلاب العسكري، لا سيما وأن الجانبين يرون في الحركات الإسلامية المسلحة أو السياسية عدوا مشتركا. فمن جهة يثبت النظام المصري نفوذه، ومن جهة أخرى يعزز أمن حدود الكيان المغتصب.
ومع استمرار الحديث عن
صفقة القرن، فإن
خروج القوات الأمريكية من سيناء يأتي في إطار خطة الخداع الاستراتيجي التي بدأت الصفقة تمارسه، فتغيرت خطة تنفيذ الصفقة بعد أن واجهت رفضا شعبيا عربيا ألزمها بتغيير الوجوه وتبديل المواقف على النحو الذي يُع?مي على استمرار الصفقة. فبعد بالون الاختبار الذي أطلق منذ أسابيع عن حكم ذاتي في سيناء، من خلال صحيفة المصري اليوم بقلم مالكها "نيوتن"، فلا نستبعد أن أمريكا تناور بإبعاد قواتها من سيناء لتستبدل بقوات رديفة من دول صغيرة، مع الإبقاء على موظفيها المدنيين من أجل المعلومات الاستخباراتية.
وللعلم، فإن هذه القوات لم تتعرض منذ أن بدأت العمليات "المسلحة" في سيناء لأي أذى برغم أنها أهداف سهلة لضعف تسليحها (بحسب الاتفاقية) وتحركها غير المؤ?من، مع ذلك فإن أمريكا تمهد لما هو أبعد خلال السنوات القادمة. فصفقة القرن لن تمرر في ليلة وضحاها، لكن في النهاية يجب أن نوقن أن طبخة ما تسوى على نار هادئة، فتلك الدول تخطط لعشرات السنين وتنفذ أيضا في عشرات السنين. وذاكرة الأمة ضعيفة وتقع في نفس الأخطاء، لكن الحقيقية التي يراهنون عليها تغيرت وأصبحت الشعوب أكثر وعيا. فالأمة العربية قبل الربيع العربي ليست كما كانت قبله ونحن لهم بالمرصاد، فإن أرادوا أن يهزموا هذه الأمة فعليهم أن يقتلوا كتابها المخلصين أولا.