(1)
لا أحب الملوك، ولا أعترف إلا بملك ومالك واحد، هو الله الواحد الذي لا إله ولا ملك إلا هو سبحانه، لكنني اليوم في صف الملك عبد الله الثاني مؤيدا لموقفه في الدفاع عن أرض بلاده. فالخلاف في المواقف الفكرية والسياسية ليست خلافات مغلقة وعدائية بالخلقة، لكنها خلافات في مواقف وأفكار، وإذا التقت المواقف والأفكار لا يصح أن نستمر في الخلاف على سبيل العناد أو المزاج النفسي.
والحال نفسه ينطبق على أبي مازن وعلى تركيبة السلطة الفلسطينية في مرحلة ما بعد أوسلو، والتي نالت من عزم المقاومة لصالح النوم على موائد التفاوض، أما اليوم وقد تبينت السلطة والمستويات القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية فداحة الاستمرار في مسار التبعية لإسرائيل وحارسها الأمريكي، ومع إعلانها سحب التزامها بكل الاتفاقيات والمعاهدات مع إسرائيل وأمريكا، بما فيها الاتفاقيات الأمنية، واعتبار إسرائيل قوة احتلال مباشرة للأرض الفلسطينية، فإنني (بلا خسارة الوقت في التفكير) أحيي خطوة السلطة لنسف "صفقة القرن" وقطع طريق الكامب، وأقف في صف الحق الفلسطيني الكامل، مع تحسبي لأسلوب الضغوط المؤقتة والمناورات السرية التي تستهدف وضع القضية الفلسطينية في حظيرة الأمر الواقع الذي يجيد الحاخام ترتيبه، بحيث يقبل الطرف المتضرر بما رفضه وتمرد عليه من قبل.
(2)
لما نشرت أمس موقفي من تأييد السلطة الفلسطينية فوجئت بتعليقات مغلقة وحاسمة تعتبر أن لا شيء سيتغير، وأن إسرائيل ستسترضي الغاضبين في أقصر وقت، وتستكمل مشروعها التوسعي بتواطؤ نفس الشخصيات التي تصدرت إعلان انهيار مسار التفاوض وسحب الاتفاقيات. وتعاملت معظم الآراء مع الموقف باعتباره "حيلة" أو وسيلة للحصول على مقابل مالي؛ للتفريط في الأرض التي تسعى إسرائيل لالتهامها من الضفة الغربية وأجزاء من القدس وغور الأردن وشمال البحر الميت، حسب تصريحات نتنياهو التي أكد فيها أن ترامب لن يمانع، بل سوف يساعد في ذلك، لتبدأ خطوات الضم الفعلية في أوائل الشهر المقبل، من خلال مناقشات إسرائيلية داخلية في كيفية التنفيذ وليس في قرار الضم من عدمه.
(3)
قد لا يعجبنا تاريخ أبو مازن، ولا علاقة ملوك الأردن بإسرائيل بعد وادي عربة وقبلها (أي خلال علاقات السلام العلنية أو من قبل في علاقات التعاون السرية)، لكن الوقوف للفرجة في هذا الموقف يعد أمرا سلبيا يضر بمبدأ الدفاع عن الأرض، لذلك تعجبت من تعليقات كثير من المصريين الذين يضعون على حساباتهم في السوشيال ميديا خريطة تظهر خليج العقبة وجزيرتي تيران وصنافير ومعهما شعار يؤكد أنهما مصريتان ويدين التفريط فيهما، وهو الموقف الذي يتخذه الآن الملك عبد الله وقيادات السلطة، والذي يجب أن يتحول بأسرع وقت إلى نقطة تجميع للفصائل وللفرق والفرقاء.
من العقل أن نتجنب تماما لغة التخوين، وفتح جلسات المحاسبة الرعناء على التاريخ أو استرجاع المواقف السابقة، في لحظة يقف فيها هؤلاء الأشخاص أو الحكام في موقف لطالما نادينا به للتحرر من مذلة الاستسلام، والخروج من قفص كامب ديفيد
فأرض الوطن ليست محلا للخلاف في وجهة النظر، وإذا تعلق الأمر بالأرض فلا موقف إلا التوحد، ولا اتفاقيات إلا إبرام عهود جديدة بين كل أطياف الوطن للحفاظ على الأرض بكل الوسائل والقدرات المتاحة. ومن العقل أن نتجنب تماما لغة التخوين، وفتح جلسات المحاسبة الرعناء على التاريخ أو استرجاع المواقف السابقة، في لحظة يقف فيها هؤلاء الأشخاص أو الحكام في موقف لطالما نادينا به للتحرر من مذلة الاستسلام، والخروج من قفص كامب ديفيد، والمواجهة المبكرة لخديعة القرن التي تتعجل إسرائيل قطف ثمارها.
(4)
أعرف أن الموقف صعب إذا وضعنا في اعتبارنا تركيبة النظام العربي، فهو بلا جهد في الإثبات نظام مخترق صهيونيا وأمريكيا، بدرجة تجعله طابورا خامسا لإسرائيل وليس قوة دفاع أو إمداد للقضية الفلسطينية. لكن يجب الرهان على الأمل في التغيير، يجب الرهان على العوامل الصغيرة والقرارات الصحيحة مهما كانت ضعيفة الإمكانات، خاصة وأننا في هذه اللحظة الدرامية الملهمة، نتابع عجز عالم الأساطيل والقوة الغاشمة أمام تحدي كائنات ضعيفة وغير مرئية، مثل فيروس كورونا.
لذلك، أطمح في "التفكير بالأمل" وليس "التفكير بالواقع"، حسب تعبير ميشيل فوكو. فبرغم رداءة الواقع وعمالة النظام العربي في معظمه، إلا أن رهاننا عليه يجب أن لا يستمر ويجب أن لا نظل في وضعية انتظار مرهونة بحال هذا النظام ومواقفه.. يجب أن لا نفكر في دعم محمد بن سلمان ولا محمد بن زايد ولا محمد عبد الفتاح السيسي، ولا أي حاكم على طريق محمد أنور السادات، المنقلب الأول على قضية فلسطين الذي رمى بذرة التبعية والاستسلام في المنطقة؛ فأينعت شوكا إسرائيليا في قلب الأمة العربية كلها..
(5)
اليوم، كما أمس، وكما غدا، يجب أن يكون الوقوف في صف المقاومة هو موقفنا غير المشروط، فالمقاومة بحد ذاتها هي معيار الفرز، وهي معيار حب الوطن، وهي معيار الدفاع عن الأرض..
نحن نتشكك في تجار الوعود الخادعة، ومروجي الشعارات المزيفة، وزبائن محلات السلام الصهيو- أمريكي، لأن مثل هذه الأمور تحتمل الخداع، وتحتمل مراودة الشعوب بأفكار الرخاء والسلام والحياة الرغدة، أما المقاومة فلا تحتمل إلا المقاومة، لأن مواجهة العدو من أجل تحرير الأرض والدفاع عما تبقى منها لا يحتمل إلا واحدا من هدفين: النصر أو الشهادة. فإذا وضع أبو مازن نفسه على طريق المقاومة فقد عفا الله عما سلف، ولا يملك عاقل أن يمنع شخصا من الدفاع عن بلاده، فنحن نقف ضد الحكام لتخاذلهم وخيانتهم لقضايا البلاد وناسها، فإذا قدموا إشارة أو بشارة للعودة إلى صفوفنا فمرحبا بهم، عسى أن يكون بينهم خالد بن الوليد، فيتحول من ذنب الشرك بالأوطان إلى شرف حمايتها والدفاع عنها.
(6)
في تقديري "الواقعي" تبدو فرصة إحياء المقاومة العربية الموحدة فرصة صعبة، لكنها بالأمل ليست مستحيلة، ومهما كانت صعوبتها فإننا يجب أن لا نقطع رقبتها بأيدينا، ونحكم على فكرة المقاومة بالفشل قبل أن تبدأ، فربما كان الحكام
في الأردن وفي السلطة الفلسطينية يناورون من أجل إبطاء مخطط الضم في حياتهم، كما فعل مبارك في مخطط تسليم تيران وصنافير، فقد ساهمت إدارته في ترتيب الأوراق لتتم الصفقة بعد رحيله الشخصي من المنصب، ليقول كاذبا: إن التاريخ بيننا وأنه لم يفرط، بل فرط من جاء بعده!
العبرة من قرار الانسحاب بتحوله إلى نواة تجميع لموقف دولي يتصدى لإسرائيل، وهو ما بدا يظهر في مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وهو ما ننتظره من معظم دول الاتحاد الأوروبي الرافضة لسياسة الوحش الإسرائيلي
لكن التفكير بالأمل قد يجبر أصحاب المناورات على الالتزام بالمعلن، لأن قوة الموقف الخاص بسحب الاعتراف الفلسطيني بالاتفاقيات الأمريكية والإسرائيلية؛ لا تكمن في قوة عباس ولا منظمة التحرير، فالأمريكيون والإسرائيليون يعرفون أن السلطة مجرد لافتة باهتة بلا وزن في المقاومة، وأن منظمة التحرير منذ تركت البندقية إلى اجتماعات المنتجعات والفنادق الفخمة، تحولت من "أنبل حركة عربية للمقاومة" إلى مجرد مؤسسة هامشية يستخدمها العدو أكثر مما ينتفع بها الوطن وتستفيد منها القضية.
لكن العبرة من قرار الانسحاب بتحوله إلى نواة تجميع لموقف دولي يتصدى لإسرائيل، وهو ما بدا يظهر في مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وهو ما ننتظره من معظم دول
الاتحاد الأوروبي الرافضة لسياسة الوحش الإسرائيلي الذي يلتهم الأرض الفلسطينية دون مراعاة لأي اتفاقات أو مخطط أو مبادئ إنسانية، حتى أن أرض الرابع من حزيران/ يونيو التي تعتبر الأساس في كل مشاريع التسوية للقضية لم تعد موجودة واقعيا، وبالتالي فإن إسرائيل تجيد صناعة "أمر واقع" يفرض على العالم تغيير مواقفه مع الوقت، والنزول عن ثوابت كانت مدعومة من قبل بقرارات أممية في تسوية القضية.
لهذا، فإننا يجب أن نفكر في صناعة الأمر الواقع الذي يخدم قضيتنا، دون الاستباق التخويني.. يجب أن ينضم كل عربي لفكرة نسف مسار كامب ديفيد وما ترتب عليه.. يجب أن نشجع الخطوة بدون حساسيات نفسية، ودون أن نجعل من مواقف الماضي عائقا أمام توحدنا ومرورنا إلى المستقبل.
يجب أن نفكر في صناعة الأمر الواقع الذي يخدم قضيتنا، دون الاستباق التخويني.. يجب أن ينضم كل عربي لفكرة نسف مسار كامب ديفيد وما ترتب عليه
(7)
إذا كان الوضع الدولي في قضية الأرض لصالحنا، فلماذا لا ندخل المعركة ونضع ترامب وأتباعه في مواجهة صعبة؟ ربما تشجع أمثال أبو مازن على نهايات طيبة لمسيرتهم، فلا شك في أنه سيجد نفسه قائدا لحركة مقاومة عنيدة تعوضه عن استقبالات الرؤساء ووجاهة المقابلات الدولية كرئيس لدولة غير موجودة على الأرض، كما أن موقف الملك عبد الله، الذي ربما دفعته إليه حسابات الحركات الوطنية الشعبية داخل الأردن، يحتاج إلى تطويق شعبي لكي يصعب عليه التراجع، أو مقايضة الأرض بالسلام كما تعاملت إسرائيل من قبل. وأنتم تعرفون أن مقدمات التخاذل تبدأ بحملات من نوع: لن نقدر على مواجهة إسرائيل ومن وراء إسرائيل، ولا بد أن نستعد ونؤجل المواجهة، ثم يبهت الثأر في الضلوع، حسب تعبير أمل دنقل.
(8)
الخلاصة:
إذا كان العملاء يناورون ليحصلوا على مكسب مستتر، ويبيعون لشعوبهم الأمر الواقع الجديد بمقولة: ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإننا يجب أن نناور، وأن نصدق الحديث الصحيح ونحوله إلى موقف صحيح. فالكلام سهل تغييره وتأويله والتلاعب به، لكن إذا استدرجنا من يقوله كذبا واحتيالا لكي نستخدم الكلام المعلن في صناعة أمر واقع، فإن الكذبة ستتحول إلى حقيقة. فالتباكي يعلّم البكاء، والاصطناع يتحول الآن في كل النظريات الحديثة إلى واقع، بل إن العالم كله يتعامل الآن وفق نظرية "موت الواقع الجذري"، كما قدمها جون بودريارد، ويهتم بصناعة وقائع أخرى يرسمها ويخترعها ويهندمها ويفرضها على العالم في مواجهة الواقع الحقيقي؛ الذي يتم طمره وإعدامه أو إخفاؤه قسريا في متاهة الصور المصنوعة والتصورات التي ينسخها الناس ويكررونها، فتصير هي الواقع الذي يريدون، وليس الواقع الذي يفرضه عليهم آخرون.
إسرائيل تصنع واقعا يلائم مشروعها، فلنصنع نحن أيضا واقعنا المأمول، ولا مشكلة في أن يكون عباس أو غيره طوبة أو حربة أو قطعة كرتون حتى ضمن المواد التي نصنع منها واقعنا المنشود.
كل عام وأنتم بخير..
فلسطين عربية، وإن طال السفر..
(عنوان المقال مطابق لمسرحية الشاعر الفلسطيني عبد اللطيف عقل عن انتفاضة الحجارة، فتذكروا أن حجرا في يد صبي هز عرش العصابة المدججة بالسلاح قبل سنوات قليلة، تذكروا أن الأمل هو دم القضية، فلا تركنوا لليأس والحكمة البليدة.. لا تتقاعسوا عندما تتعرض الأرض للتهديد.. لا تختلفوا عندما ترتفع راية المقاومة).
tamahi@hotmail.com