وجهان ثقافيان لجيلين مختلفين، أحدهما عاش نكبة فلسطين في أيار / مايو عام 1948 والآخر عاش ما سمي بـ "نكسة" حزيران/ يونيو عام 1967، كلاهما كان رائدا في مجال تخصصه وترك لمسات رقيقة و"ضربات" متقنة من الإبداع والوعي.
السكاكيني علمنا "رأس.. روس"
أحدهما يصنف كأحد رواد التربية الحديثة في الوطن العربي فقد ترك بصمات واضحة في مجال التعليم والتربية والتمسك باللغة والثقافة العربية.
ورغم أنه تلقى تعليمه في مدارس شبه أجنبية في مدينة القدس إلا أن خليل قسطندي السكاكيني المولود في القدس كان متشبثا باللغة العربية ومدافعا عنها حتى آخر رمق في حياته.
ورغم أنه أيضا، انتقل بعد تخرجه عام 1908 إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا، حيث عمل في تعليم اللغة العربية إلا أن المقام لم يدم طويلا في أمريكا فقرر العودة إلى القدس، فعمل صحفيا في صحيفة "الأصمعي" المقدسية كما درَّس اللغة العربية في مدرسة الصلاحية في القدس.
وامتد نشاطه إلى تدريس الأجانب اللغة العربية، وبعد فترة وجيزة قرر أن ينشئ مدرسته الخاصة في القدس عام 1909 وأطلق عليها اسم "المدرسة الدستورية" بمناسبة اعتماد دستور الإمبراطورية العثمانية الجديد.
وما أن افتتحها حتى ذاع صيتها بسبب توجهها الوطني وبسبب منهجها الرائد في ذلك الوقت الذي اتبعه السكاكيني.
كان خليل السكاكيني عضوا في "المجمع اللغوي" في القاهرة و"المجمع اللغوي" في دمشق، وألقى محاضرات في الجامعة اللبنانية والجامعة المصرية وتواصل مع عدد من الأدباء من وزن طه حسين وأحمد زكي وغيرهم.
ومن المواقف التي صبغت حياته ومسيرته فيما بعد تمسك السكاكيني بعروبته حين دعا كنيسة الروم الأرثوذكس في القدس إلى تعريب لغتها وتعريب الصلوات فيها وطالبها بأن لا يُصلى فيها باللغة اليونانية، وأن لا تستخدم فيها إلا اللغة العربية، ونشر في هذا الصدد منشورا عام 1913 بعنوان "النهضة الأرثوذكسية في فلسطين".
من خلال مهنته في التدريس والتفتيش بالأساس، ومن خلال الصحافة والنشاط السياسي خاض السكاكيني نضاله في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، ضد "الانتداب" البريطاني على فلسطين رافضا مبدأ الوصاية على الوطن العربي، منددا باتفاقية "سايكس بيكو" و"وعد بلفور"، مؤكدا أن العرب لا يحتاجون لأحد كي يعلمهم ويدربهم كيف يحكمون أنفسهم، كما طالب بالوحدة العربية.
لقد وعى السكاكيني الخطر الصهيوني المدعوم من بريطانيا، ورأى أن هذا الخطر يهدد الوطن العربي بأكمله، وكان الخطر الصهيوني على فلسطين والأمة العربية مثار اهتمامه الأساسي، وكان مدركا لخطورته بوعي شديد.
آمن السكاكيني بتحديث وسائل التعليم واستخدام الوسائل البصرية، وكتب عدة مؤلفات تشرح منهجه. كما أعد وألف الكثير من كتب المناهج الدراسية في مجال اللغة العربية، وكان من أهمها كتاب اللغة العربية للصف الأول الابتدائي الذي يبدأ بدرس كلمتي (رأس - روس) المدعمة بالصور والشرح. وقد دُرس هذا الكتاب من بدايات العشرينات وحتى عدة سنوات بعد وفاته وإلى منتصف الستينات.
وأثناء الحرب العالمية الأولى طالبت الحكومة المواطنين الأمريكيين بتسليم أنفسهم وإلا اعتبروا جواسيس، وكان أحد معارف السكاكيني، يهوديا أمريكيا رفض تسليم نفسه، والتجأ إلى بيت السكاكيني الذي آواه لعدة أيام إلى أن اكتشفت الشرطة أمره فتم اعتقالهما ونقلا إلى السجن في دمشق.
قضى السكاكيني في السجن حوالي شهرين ونصف، وأطلق سراحه، إلا أن احتلال إنجلترا لفلسطين حال دون عودته، فأقام في دمشق حتى عام 1918 وغادرها للانضمام إلى الثورة العربية الكبرى في الحجاز، وفي طريقه للانضمام إليهم كتب نشيد الثورة العربية الذي مطلعه:
أيها المولى العظيم
فخر كل العرب
ملكك الملك الفخيم
ملك جدك النبي
وعندما حاول دخول فلسطين، منعته السلطات الإنجليزية فاضطر للإقامة في مصر نحو شهرين حتى تمكن فيما بعد من العودة إلى القدس.
عين عام 1919 مديرا لدار المعلمين في القدس لكنه استقال احتجاجا على تعيين هربرت صموئيل اليهودي في منصب المندوب السامي لبريطانيا في فلسطين. وبعد مغادرة صموئيل فلسطين عاد للعمل مفتشا عاما للغة العربية في فلسطين، وبدأ بكتابة مقالاته وأشعاره السياسية المعارضة في "المقتطف" و"الهلال" و"السياسة الأسبوعية".
واصل السكاكيني تنقله بين البلدان فعاد إلى مصر من جديد عام 1920، ومكث فيها عامين وعمل هناك مديرا للمدرسة "العبيدية"، لكنه ما لبث أن عاد للقدس ليصبح أمين سر اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني العربي.
وبلغ من قومية السكاكيني أنه عمل مرة في إذاعة فلسطين في القسم العربي "هنا القدس"، وذلك في عام 1936، أي في العام نفسِه الذي افتتحت فيه، لكنه سرعان ما استقال بمجرد أن سمع المذيع اليهودي يقول: "هنا أرض إسرائيل".
نُشر له اثنا عشر مؤلفا في حياته هي: "فلسطين بعد الحرب الكبرى" و"مطالعات في اللغة والأدب" و"سريّ" و"حاشية على تقرير لجنة النظر في تيسير قواعد اللغة العربية" و"لذكراكِ" و"..وعليه قس" و"ما تيسّر" و"الجديد في القراءة العربية" و"الأصول في تعليم اللغة العربية" و"النهضة الأرثوذكسية في فلسطين" و"كذا أنا يا دنيا" و"معالم التاريخ القديم".
رحل السكاكيني إلى القاهرة بعد حرب فلسطين عام 1948 التي أجبرته على ترك بيته ومكتبته التي التي كانت تضم كتبا عربية وأجنبية من أمهات الكتب، وتوفي عام 1953، وكان موته على إثر حزنه المتوالي على وفاة زوجته "سلطانة" وابنه الأكبر "سرّي" الذي مات بسكتة قلبية، ومات بعده بثلاثة أشهر، ودفن في مقبرة كنيسة "مار جرجس الأرثوذكسية" في القاهرة، وأُطلق اسمه على أحد شوارع القدس وعلى أحد مدارسها تخليدا لذكراه، ومنح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في عام 1990.
وفي عام 1996 أنشئ مركز "خليل السكاكيني الثقافي" في مدينة رام الله، وهو مؤسسة مستقلة، غير ربحية، تعنى بترويج الفن والثقافة والإبداع الفلسطيني.
الرفاعي.. رائد الكاريكاتير في الأردن
الوجه الآخر من قصتنا، صاحب تجربة ريادية، طالما عبر بريشته عن هموم المواطن العربي وجميع التفاصيل المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
يعد من جيل الرواد في فن الكاريكاتير الأردني مع رباح الصغير وزكي شقفة.
ينتمي لجيل رصين يميل للإكثار من الكلام في رسوماته وعدم التركيز على القضايا المحلية، لم يكن جلال الرفاعي رسام كاريكاتيريا وفنانا تشكيليا يهرب من ريشته أو يتنكر لها أو يخونها، كان أمينا عليها. ولادته في قرية كفر عين قرب رام الله في الضفة الغربية ثم التحاقه للعمل في أقدم الصحف الأردنية صحيفة “الدستور"، أرخت له بوصفه من أوائل رسامي الكاريكاتير في الأردن، حيث كانت البداية الفعلية له مع رسم الكاريكاتير عام 1971.
الرفاعي لم يركن فقط إلى موهبته فقد سعى إلى صقلها أكاديميا فالتحق بدورة في الإخراج الصحفي عام 1971 في لندن. ثم درس الرسوم المتحركة عام 1976 في لندن.
بدايته الفنية كانت من خلال عمله خطاطا ورساما في "الدستور" ما بين عامي 1967 و1974. كذلك عمل مشرفا فنيا في عدد من المجلات والصحف العربية في لندن.
ومنذ عام 1980 عمل مديرا للقسم الفني في مؤسسة “البيان" في دبي، حتى عام 1990 حين عاد إلى العمل كرسام كاريكاتير في صحيفة "الدستور" حتى وفاته عام 2012.
قام مع زملائه رسامي الكاريكاتير بتأسيس رابطة تضم العاملين في حقل الكاريكاتير في تجربة رائدة وفريدة على المستوى العربي والإقليمي. وسعى كرئيس للرابطة إلى حشد الدعم والتأييد لها، لكن المفارقة أنه خلال السنوات الأخيرة، ورغم كل الذي قدمه كان متوقفا عن العمل، ولم يجد منبرا لنشر إبداعاته.
لم يبخل يوما على أصحاب المواهب، بل أوجد لهم منبرا لنشر رسوماتهم من خلال إعداده لملحق الكاريكاتير للهواة في أواخر التسعينيات بصحيفة "الدستور"، وقد مد هذا الملحق يد العون لأسماء مهمة ولامعة في مجال الكاريكاتير ونقلهم إلى طريق الشهرة والاحتراف.
اتسمت رسومات الرفاعي بتجريد الشكل والخطوط واستخدام اللونين الأسود والأبيض، كما أنه أدخل الألوان واستخدم الكمبيوتر في محاولة لمعاصرة الجيل الحديث.
وتركز رسوماته على الإصلاح والإشارة إلى السلبيات، في محاولة لتصوير "هموم الناس" بطريقة فنية بصرية وبسيطة، وبإيحاءات دلالية واضحة لا تحتاج إلى جهد التفسير.
وحاز الرفاعي على العديد من الجوائز الأردنية والعربية من بينها جائزة هشام وعلي حافظ عام 1996 وهو صاحب عطاء إبداعي متميز وله ثمانية كتب كان آخرها كتاب عنوانه "مكانك سر".
طوال مسيرته الفنية كان الرفاعي يعبر ويعبر بصدق وشفافية عن مطالب الجماهير بالحرية والعدالة ومحاربة الفساد والمفسدين.
وكان أيضا من أنصار المدرسة الكلاسيكية المباشرة في رسم الكاريكاتير، التي لا يمكن أن تموت، فهذا النوع من الرسم لا يعترف بالألغاز ويقدم فكرة بسيطة مباشرة دون مواربة، ويصدم القارئ بموقف يختلط فيه الضحك بالبكاء، والغضب بالرضا، جلال فعل كل ذلك وبشكل يومي وعلى مدار أربعين عاما بصورة ناقدة وذكية أدخلته تاريخ هذا الفن الراقي والجميل من أوسع أبوابه.
أبو لغد.. عائد إلى "حي العجمي" بـ "يافا" في كفن
ما بقي من العيد في فلسطين بوجود كورونا
"الثلاثاء الحمراء".. ثلاثة شهداء تسابقوا على حبل المشنقة