(1)
"يحاول أعداء الوطن (من المتربصين) التشكيك في ما تقوم الدولة به من جهد وإنجاز".
هذا مقتطف من بوست على فيسبوك
نشره الرئيس المصري قبل ساعات قليلة على "فيسبوكه". للأسف لا أستطيع أن أضرب لايك على البوست، لأنني أغلقت حسابي.
قد يسألني صديق بريء: ولماذا أغلقت حسابك؟
أقول: لأن "الحساب" في بلدي لا يعمل إلا ضد المواطن، فالرئيس خارج الحساب والمواطن في المصيدة، لذلك أغلقت الحساب، وتركت ما تبقى من المجال العام لسيادته ولكتائبه الوطنية، وبهذه الخطوة سينقص واحدا من أعداء الوطن (المتربصين) فيفرح الرئيس ويشعر بإنجازاته..!
وهذا المقال ليس مناكفة للرئيس الخبير الحكيم الجرّاح الوصّاف، لكنه دليل على الاهتمام بكلام فخامته، ومن هذا الاهتمام أناقش معه ومعكم حكاية "أعداء الوطن"، ربما نتعرف عليهم، ونساعد سيادته على التخلص من المتشككين المتربصين الذي يمنعون عبور المحنة بسلام، ولا يعترفون بالنجاح الذي أبهرنا به العالم في مختلف المجالات، ويعطلون خطط التنمية والاستقرار "الإقتصادى"..
(على فكرة يا ريس أنا حطيت لك كلمة "الإقتصادى" بين قوسين، عشان تعاقب الولد اللي بيكتب لك، لأنها من غير همزة، والياء الأخيرة يجب أن تكون منقوطة مثل كل
المصريين المنقوطين من سياسات وتصريحات سيادتك).
(2)
قد يغضب الرئيس وحاشيته من تعليقي على خطأ سيادته في كتابة كلمة "الإقتصادى"، ولا يعتبرونها محاولة للإصلاح وكشف الأخطاء، وفرصة تساعد الرئيس على عبور المحنة من خلال تشكيل لجنة فيسبوكية رئاسية للتصحيح والتدقيق والمراجعة، حتى لا يظهر رئيس "الجمهورية المصرية المحاربة لأعداء الوطن" بهذا المستوى الركيك في الإملاء، لأن هذا قد يدفع تلميذاً في الابتدائي لسؤال أمه أو معلمته عن هذا الخطأ، وأيهما أصح؟.. الرئيس أم "ميس" العربي؟ وساعتها لا نستبعد أن يضم سيادته كل التلاميذ الصغار إلى فئة "أعداء الوطن"، فتتسع المسخرة ويتكاثر الألش السياسي الذي "ينرفز" سيادته..
(3)
أعترف أنني "مزودها شوية"، وأسلوب التربص والتشكيك "بينط" من تعبيراتي، وقاعد أكتب "يا أحمر الخدين" لأنني لا أجد في الورد أي عيب، ربما نتيجة شعور بالغيظ أو بالملل بعد أن فقدت دوري الثقافي والسياسي وأصبحت من أيتام الثورة المهدورة، وربما أصابني فيروس "عبده مشتاق" وبعمل كراش لسيادة الرئيس وحاشيته لكي يضعوني في قائمة الاتصالات مثل "الواد بتاعهم" و"البت بتاعتهم"، وربما (احتمال ولو ضعيف) يكون في كلامي "شبهة إصلاح وتصحيح".
لهذا لا مانع يا حضرة الرئيس من النظر بتمعن في تربصي وتشكيكي، والتحقيق في ما أكتب وأقول، إما أن تقتنعوا وتصححوا الأخطاء، وإما أن توصلكم التحقيقات الجادة إلى دليل مادي دامغ على أنني من "أعداء الوطن"، أو أخدم توجهاتهم، أو أحترمهم، أو أتلقى منهم تمويلاً (كما نشرت إحدى الصحف عدة مقالات مسلسلة تحت عنوان "دولارات جمال الجمل")، وأنني مقابل هذه الدولارات الضخمة أبيع شرفي الوطني وأعارض النهج "الإقتصادى" للرئيس، وأنشر أخباراً كاذبة عن خطأ الرئيس "الإقتصادى" والمطالبة بتصحيحه إلى "الاقتصادي".
وهذا اجتراء، وافتراء، ونشر شائعات، وبلبلة، وتحريض للمواطنين، واعتراض على قواعد الدولة وضرورات النحو العسكري، والتصرف حسب أوامر وتعليمات تأتيني من أعداء الوطن، أمثال سيبويه وأبو الأسود الدوؤلي، رؤوس المخطط التخريبي لقواعد الصرف والنحو.
(4)
إحنا هزرنا كتير، وحاليا وصلنا إلى لحظة هامة من عمر الوطن تتطلب من الجميع استمرار التكاتف والتضامن، هنقضي مرحلة الضرورة كلها هزار وللا إيه؟ نتكلم جد شوية حتى لا نعطي الفرصة لأعداء الوطن أن يعطلوا مسيرة الإنجازات والإصلاح "الإقتصادى".
(5)
تخيلوا معي رد فعل الرئاسة المصرية على مطلب إصلاح كلمة "الإقتصادى" التي لن تكلفهم أي شيء إلا الضغط على زر تحرير البوست وتصحيح الكلمة، وشكراً. لكن هذا عيب كبير في دولتنا التي لا تخطئ، فالدولة الكبرى على حق وكل من يخالفها ليس إلا متربص تشكيكي من أعداء الوطن. فـ"الإقتصاد" هو الطريقة التي تعتمدها الدولة بصرف النظر عما إذا كانت صحيحة أم لا في كتاب القواعد، وتعديل قوانين الصرف لا يحتاج إلى قواعد مستقرة في تاريخنا، لكنه يحتاج إلى روشتة من صندوق النقد الدولي، وبالتالي فلا بد أن نفهم الحكمة الرئاسية من تعديل الخطاب الديني، والخطاب "الإقتصادى"، وكل الخطابات بما يتماشى مع ثقافة الرئيس الذي يحنو لدرجة أنه يتكرم على شعبه ويستخدم الألف "اللينة" في غير موضعها (بالأمر المباشر من غير موافقة البرلمان ومجمع اللغة العربية)، لرغبته الشخصية في تليين ظروفنا المعيشية الصعبة وتحسين حالنا "الإقتصادى".
(6)
كتبت مرة عن مسمار ريتشارد الثالث الذي تسبب في تغيير مصير بريطانيا كلها بعد هزيمة الملك في حرب الوردتين، وصياحه في نهايات المعركة: "حصان.. مملكتي مقابل حصان"، لأن حصانه سقط بسبب تسرع الحداد الملكي في تسليم الحصان قبل أن يكمل دق المسمار الرابع في إحدى الحدوات، معتبراً أن الأمر بسيط وتافه، وأن احتمال سقوط الحدوة ضئيل جدا، لكن الملك خسر الحرب والمملكة كلها بسبب المسمار الصغير المهمل..
وفي زمن الوباء الذي يطلب فيه
السيسي تكاتف جهود الشعب من أجل التصدي لأعداء الوطن، اعتذر وزير الصحة في ألمانيا لأعداء الوطن الألمان الذين هاجموه بسبب استخدامه المصعد الكهربائي في الصعود لمكتبه، وعدم حرصه على "مسافة الأمان" التي يطالب بها المواطنين، وبعد الاعتذار أعلن الوزير التزامه باستخدام الدرج بعد ذلك..
وفي بريطانيا تراجع رئيس الوزراء عن قرارات حكومية، واضطر إلى تعديلها بعد ساعات قليلة، خضوعا لمطالب "عامل نظافة عربي" في قطاع الصحة؛ لا يحمل الجنسية البريطانية، وهذا يعني أن أعداء الوطن في دول كثيرة لديهم "تلكيكات هايفة"، لكن القادة هناك يهتمون بملاحظات وانتقادات المتشككين المتربصين، ويعتذرون عن تصرفاتهم وقراراتهم احتراما لأعداء الوطن!
(7)
في منتصف الثمانينيات شاهدت العرض السينمائي الوحيد لفيلم "االزمار"، في قاعة سينما بوسط القاهرة، كانت فارغة إلا من عدد قليل جداً من صناع السينما والمهتمين. بعد أيام كنت أناقش النهاية مع الصديق عاطف الطيب، مخرج الفيلم، واتفقنا تقريباً على أن هناك مبالغة في مشهد قتل حسن، المناضل الطلابي "الهارب" بعد تقديمه مسرحية في الجامعة أغضبت أجهزة الأمن. وفي أكثر من نقاش كان الطيب يدافع عن "الواقع الدموي" في الكثير من أفلامه، لكن دفاعه لم يكن عن العنف، بل من أجل الاستخدام الفني للعنف، كتعبير رمزي يحذر فيه من مسببات هذا الدم.
وكانت نهاية فيلم "البريء" واحدة من أشهر الحالات التي تركز حولها النقاش الفني والمجتمعي والرسمي، بعد أن تدخلت وزارة الدفاع ووزارة الداخلية إلى جانب وزارة الثقافة في تحديد مصير الفيلم، علما بأن "الزمار" لم يعرض سينمائيا حتى اليوم، وبالتالي لم يدخل تاريخ السينما، ولكن تاريخ صناعة الأفلام وفقط، لأن دخول تاريخ السينما يشترط عرضا عاما للجمهور بتذاكر مدفوعة، والعرض الذي حضرته لم يكن عاما ولم تطبع له تذاكر. لكن "البريء" تم عرضه بعد حذف مشهد النهاية الذي يفتح فيه المجند "أحمد سبع الليل" نيران مدفعه الرشاش على قادة معسكر الأمن المركزي، اعتراضا على حفلة استقبال تعذيب المعتقلين الجدد من "أعداء الوطن".
(8)
كان المجند الريفي غير المتعلم "أحمد سبع الليل" واحداً من الأبرياء المقتنعين بكلام الرؤساء والوزراء و"العيال بتوعهم في الإعلام"؛ عن توصيف المعارضين بأنهم من المتربصين المشكيين أعداء الوطن، لكنه تعرض لصدمة المفارقة في وعيه المحدود عندما شاهد بين هؤلاء
الأعداء ابن بلدته المتعلم "حسين وهدان"، الذي كان يعامله بالحب والاحترام، فقال جملته الشهيرة: حسين أفندي ابن عم وهدان لا يمكن أبدا يكون من أعداء الوطن. وبدلا من أن يشارك في تعذيب حسين، اهتم بحمايته ودخل السجن معه، حتى كان مشهد الانفجار وفتح النيران على القادة الكاذبين، لأنهم هم أعداء الوطن الحقيقيون.
قد نتعجب أن كاتب الفيلم هو وحيد حامد، الذي قدم العديد من الأفلام التي تحرض على العنف الفردي، والتعاطف مع البطل الضد، الذي يغتال الفاسدين من رجال الدولة ورجال أعمالها، لكننا لا بد وأن نتعجب أكثر ممن وظفوا حامد بعد ذلك في الاتجاه المضاد، للتنديد بالعنف الفردي إذا ارتدى جلباباً أبيض! بينما ظل العنف الفردي الذي يرتدي الجينز مقبولا ومسموحاً به في السينما، وفي مجالات أخرى لا يحددها عقل ولا أخلاق ولا دستور، بل تحددها رغبات الدولة ورؤية حكامها!
(9)
لا أرغب هنا في الحديث عن السينما، لكن أود التذكير بأمور تخص السياسة والأمن القومي، لأن وزارة الدفاع عندما رفضت ومعها وزارة الداخلية سلوك العنف الفردي لمجند، ظلت حبيسة في فكرة الصورة، وكانت مدفوعة بالتطهر على الشاشة، فلم تر التحذير الكامن في الفيلم من إمكانية حدوث صدمة في وعي المجند تنقلب على القادة الكاذبين، فيحدث القتل من داخل المؤسسة، خاصة وأن رئيس الجمهورية اغتيل قبل سنوات قليلة بسلاح هذه المؤسسة، في عرض احتفالي بانتصارها العظيم!
إهمال رسالة التحذير في فيلم سينمائي، والاكتفاء بحذف المشهد لأن "الواد أحمد سبع الليل بتاعنا لا يمكن يعمل كده أبداً"، ولأن "مؤسستنا منضبطة وعظيمة ونقية وفخر للوطن"، لكن الأيام اثبتت أن المجند الأمي أحمد سبع الليل "كبر وبقى ضابط"، سواء كان اسمه هشام عشماوي أو عبود الزمر، أو حنفي جمال، أو كريم حمدي، أو عماد عبد الحميد، أو أسماء أخرى خفية، معرضة لصدمة الوعي ولحظة المفارقة الانقلابية عندما تنكشف أمامها خدعة "أعداء الوطن"، فتبدأ الحيرة وتتدافع الأفكار وتتقافز الأسئلة الشائكة في الرؤوس والضمائر، حتى توقظ العقل الذي نام طويلا على وسادة الأكليشيهات الكاذبة، حيث يعود المتشككون للتفكير في البديهيات الضائعة ويسألون:
ما هو الوطن؟
من هو العدو؟
من هم أعداء الوطن؟
وللحديث بقية، لأن الأسئلة التي تستيقظ، لا تقبل النوم قبل الحصول على إجابة تحترم الوعي الناتج عن الصدمة وهشاشة الأكاذيب.
tamahi@hotmail.com