كتبت أكثر من مرة هنا عن الخطر الناجم على بني البشر من تحالف الجهل والغباء، في المساعدة على استفحال جائحة كورونا التي ـ ولأول مرة في التاريخ ـ وضعت جميع بني البشر في خندق واحد، لأنها لا تميز بين ضحاياها على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الطبقة أو الجغرافيا (الموقع)، ومن سخريات القدر أن تتجلى مخاطر تواطؤ الجهل والغباء في مواجهة الجائحة، في بلد ظل يقدم نفسه للعالم على أنه موطن التنوير والإبداع والثقافة، ومسقط رأس الذكاء الاصطناعي الذي ركيزته الذكاء البشري (الطبيعي).
يتبجح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه صنع نفسه بنفسه، ولهذا فهو لا يعبد إلا "صانعه" أي نفسه، وفي سبيل إثبات أنه وبعصامية إعجازية أسس امبراطورية عقارية ضخمة، يحرص على التهوين من أمر الدفع الذي وجده من والده كي يدخل سوق الاستثمار، فيكرر كلما سنحت فرصة القول بأن والده أعطاه مبلغا هزيلا لتلك الغاية (وكان ذلك المبلغ بضعة ملايين في سبعينات القرن الماضي).
تعاني الولايات المتحدة اليوم من فيروسين لهما قوة فتك هائلة بالبشر والمؤسسات التي بناها بنو البشر، فقد تفشى فيها فيروس كورونا بحيث صارت البلد الأكثر معدلات إصابة به، ثم، وهي تحسب أنها تكاد تنجح في تطويق الفيروس وتحرير الناس من أسر الحبس الطوعي والقسري في المنازل، نشط فيروس العنصرية الذي ظل كامنا وذا هبات متقطعة على مدى قرون، وما كان له أن ينشط على النحو العنيف الذي شهدته الأراضي الأمريكية طوال الأيام القليلة الماضية، لولا وجود ترامب على رأس السلطة، ودأبه المتكرر على تغذية روح الاستعلاء العرقي بين المواطنين البيض.
ومصاب الولايات المتحدة عظيم لأن رأس الدولة فيها يعاني من الجهل والغباء والاستعلاء والنرجسية، وهذا بالضبط ما يدفعه الى تكذيب كل أمر لا يكون هو مصدره او الفاعل الرئيس فيه، وإلى إيقاف الحقائق على رؤوسها، لا لشيء سوى أنه يريد للناس ان يصدقوا فقط ما يصدر عنه من اقوال، وان يقتنعوا بأن كل امر يقوم به لا يأتيه الباطل من أي منفذ.
الأمل عظيم في أن تحالف فيروسي كورونا والعنصرية سيهزم تحالف الجهل والغباء مجسدا في شخص ترامب، العصامي في جهله، والذي يزداد جهالة بمضي السنين
ولو استعرضنا الكيفية التي تعامل بها ترامب مع أكبر خطر يهدد البشرية جمعاء (الكورونا)، لرأينا كيف أنه يستعصم بجهله ونرجسيته، ويظل يكابر ويكذب ويهذي ويهرف بما لا يعرف في أمر فيروس حار العلم في أمره، فقد أبلغه مجلس الأمن الوطني الأمريكي بأمر خطر الكورونا في كانون أول (ديسمبر) وكانون ثاني (يناير) الماضيين أربع مرات، ولكنه استخف بالخطر، ولم تبدر عنه بادرة لتوجيه مؤسسات الرعاية الصحية للاستعداد لمكافحة الجائحة.
ثم تفشى الخطر وعم القرى والحضر في شباط (فبراير)، فكان أن حرص على الوقوف أمام الكاميرات يوميا للإفتاء في أمور لا يعرف عنها قليل شيء، ونصح مواطنيه بوصفات علاجية لا تختلف كثيرا عن وصفة الغرغرة بالخل والليمون والعسل التي ابتلى الله بها أهل الشرق الأوسط، مع التذكير بأنها شدة وتزول بحلول نيسان (أبريل) حين يتولى الحر أمر الفتك بالفيروس، ولم يفت عليه أن يضيف أنه وبالحر وغيره سيختفي الفيروس بما يشبه "المعجزة، وإذا بالفيروس ينتعش ويزداد قدرة على البطش فيما بعد ذلك الشهر..
من الواضح أن عين ترامب على فرصه في الفوز بولاية ثانية عبر الانتخابات الرئاسية المرتقبة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ولهذا ظل مهووسا بالتأثير السلبي للحجر العام للمواطنين الذي استوجبته خطط مكافحة الكورونا على الاقتصاد، ويسعى للتعجيل برفع الحجر واستئناف النشاط اليومي في كل المرافق، بل بلغت به الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء أن زعم أن استمرار الحجر والحظر سيؤدي الى ان يصبح عدد المنتحرين أعلى من عدد ضحايا المرض (وكان ذلك في وقت ناهز فيه عدد الضحايا المائة ألف).. وغني عن القول أن تاريخ البشرية لا يعرف عمليات انتحار بالجملة يمارس خلالها عشرات الآلاف قتل انفسهم في توقيت واحد او تواقيت متقاربة.
وكلما أخفق ترامب في أمر ما اتخذ من الرئيس السابق أوباما شماعة، ومعلوم أن ترامب ظل منذ انتخاب أوباما رئيسا يناصبه العداء، شأن كل أقطاب اليمين المسيحي المتصهين، الذي كان يرى في وجود شخص أسود على قمة هرم الحكم اختلالا في موازين الكون، ولا يفوت ترامب هذه الأيام فرصة دون ترديد أن إدارة أوباما قلصت سلطات الفحص المخبري للأمراض والأوبئة، بينما يحرص هو يوميا على تكذيب كل ما يتوصل إليه علماء الفيروسات حول كورونا، وينصح مواطنيه بشرب مواد تبييض الملابس وتنظيف الأسطح، وتعاطي أقراص هايدروكسيكلوروكين (وقد عجز مرارا عن نطقها على النحو السليم) رغم ثبوت أن ضررها أكثر من نفعها..
ثم جاءت الجائحة التي ما كان لها أن تتفشى إلا في عهد رجل كترامب، يرى أن المال أهم من النساء والرجال، ويعتقد أن الشعوب غير البيضاء تستحق الدوس بالنعال، فكان أن انكشف الوجه القميء للعنصرية في الولايات المتحدة، والذي تجلى، ليس في قتل شرطي للرجل الأسود جورج فلويد خنقا بالضغط على عنقه بالركبة، بل بالأسلوب الوحشي الذي تعاملت به الشرطة الأمريكية في مختلف المدن الأمريكية مع الاحتجاجات التي أعقبت قتل فلويد..
الأمل عظيم في أن تحالف فيروسي كورونا والعنصرية سيهزم تحالف الجهل والغباء مجسدا في شخص ترامب، العصامي في جهله، والذي يزداد جهالة بمضي السنين وينطبق عليه المثل السوداني "كبر بجهله" عن الشخص الذي تلازمه طفوليته في سنوات عمر متأخرة، وأستعير هنا مقولة لجيم هايتاوار مسؤول الزراعة الأسبق في ولاية تكساس عن الرئيس الأسبق جورج بوش مع التعديل الذي يناسب المقام والمقال: إذا بلغ سعر برميل الجهل أربعين دولارا، فإنني أود الحصول على حق التنقيب في رأس ترامب..
سياسة القاهرة تجاه ليبيا.. فشل يورث الندامة
هل تدفع الإمارات مصر إلى الغرق في ليبيا وشرق المتوسط؟
ذهب مع الريح.. الكابوس الأمريكي