نشطت خلال الأيام الفارطة الدعوات الداخلية والخارجية للتظاهر والاعتصام أمام مجلس نواب الشعب أو البرلمان من أجل المطالبة بإسقاطه وإعادة الانتخابات. الدعوات لم تكن صغيرة الحجم ولا صغيرة المصدر فقد أنشأت لها صفحات ومواقع على وسائل التواصل الاجتماعي ودعمتها قنوات تلفزية مصرية وإماراتية وسعودية تحديدا. الهدف الآخر الذي أمعن دعاة الفوضى على التنصيص عليه إنما يتمثل كما يقولون في إنقاذ تونس من الإرهاب ممثلا في حركة النهضة المحسوبة على التيار الإسلامي.
استهداف المهد
لم يكن مستبعدا أو غير منتظر أن تغفل قوى الثورة المضادة عن مهد ثورات الربيع العربي تونس. بل إنّ الأصل في كل موجات الثورات المضادة عبر التاريخ أن تستهدف المركز النشط والعصب الفاعل للتغيرات الاجتماعية والسياسية والحضارية الكبرى من أجل وأد التغيير في المهد.
بناء على هذه المسلمة التاريخية فإنّ مشروع الفوضى المتجدد في تونس هو تحصيل حاصل وأمر طبيعي جدا ومنتظر لكن الجديد هو تنوّع الأدوات التي استعملتها القوى الانقلابية في الداخل والخارج لضرب المنجز الثوري التونسي وتعطيل المسار الانتقالي هناك. فبعد الانكفاء والضمور الذي عرفه الفاعل الانقلابي في تونس خاصة خلال سنتي 2011 و2012 بسبب ارتفاع المنسوب الثوري انطلقت منذ 2013 الدعوات الصريحة والعلنية لإنهاء الحالة الثورية.
فشلت النخب التونسية والعربية عموما في الاستثمار في المشترَك الممكن وسقطت في فخّ الاستقطاب الايديولوجي والانخراط في لعبة المحاور الاقليمية التي حكمت على المسار الانتقالي التونسي بالارتهان للخارج وبالانسداد في الداخل.
كانت هذه الدعوات مدفوعة بالمنجز الانقلابي الكبير في مصر بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي وبعد عودة نظام الحكم العسكري بقبضة أشد. فقد كان مخطط غرف الانقلاب الخليجية إلحاق تونس بالنموذج المصري وخنق الثورة الليبية وإغلاق قوس الثورات نهائيا. بل إنّ إنجاح الانقلاب في تونس كان سيعدّ أكبر انتصار للثورات المضادة لما تحمله البلاد من رمزية كبيرة في المخيال الجمعي العربي وبذلك تكون الثورات قد وئدت في المهد.
نشطت المركزية النقابية أو ما يسمى الاتحاد العام التونسي للشغل وأذرعه الإعلامية ومجاميع رجال الأعمال والوكلاء السياسيين المرتبطين بهم في ترذيل الحياة السياسية وفي نشر الفوضى والاحتقان. فقد عاشت تونس خلال السنوات التي أعقبت الانقلاب المصري على وقع محاولات خطيرة كادت تنزلق معها البلاد في العنف والعنف المضاد خاصة بعد مجموع العمليات الإرهابية التي استهدفت المؤسسة العسكرية والمراكز السياحية وكذلك الاغتيالات السياسية المدروسة. لكن رغم كل ذلك نجحت البلاد في تجاوز المنعرج الخطير بأخف الأضرار مؤكدة على صمود التجربة وعلى صعوبة العودة إلى مربع الاستبداد.
تشرذم النخب
قد لا يختلف اثنان في تونس وفي المنطقة العربية اليوم حول جسامة الدور السلبي الذي لعبته النخب المحلية في التمكين للثورات المضادة عن قصد أو عن غفلة. لكنّ المشكل الأعمق في ما يتعلق بدور النخب المحلية إنما يتمثل في صعوبة فرز الأدوار التي لعبتها خلال السنوات العشر المنقضية بسبب تداخل المرجعيات وتشابك الأدوار وحساسية المرحلة من ناحية أخرى.
فإذا كانت النخب والتيارات المحسوبة على الدولة العميقة قد عادت إلى ممارسة أدوارها في محاولة إرجاع النظام القديم من أجل استعادة مصالحها المرتبطة به فإن النخب والتيارات والأحزاب المحسوبة على الثورة وعلى المعارضة قد شكلت أخطر الحواجز في مسار المرحلة الانتقالية. لم تنجح التيارات الإسلامية والقومية واليسارية وحتى اللبرالية المعارضة أو المستقلة في تجاوز خلافاتها الأيديولوجية وصراعاتها الفكرية التاريخية في سبيل إنجاح اللحظة الثورية. بل إنها وجدت في مناخ الحرية الجديد إطارا مفتوحا وغير مشروط من أجل تصفية الحسابات القديمة واستعادة الصراعات التاريخية التي خلقت جوّا من الاحتقان سهّل كثيرا عودة المنظومة القديمة إلى المشهد.
فشلت النخب التونسية والعربية عموما في الاستثمار في المشترَك الممكن وسقطت في فخّ الاستقطاب الأيديولوجي والانخراط في لعبة المحاور الإقليمية التي حكمت على المسار الانتقالي التونسي بالارتهان للخارج وبالانسداد في الداخل.
لكن من جهة أخرى ترى قراءات عديدة أنّ ما حدث كان مرحلة ضرورية في المسار الانتقالي لأنها مرحلة تعتمد على مبدأ فرز الفواعل وغربلة المكونات وهي حركة تدخل في إطار عملية أكبر تشمل إعادة بناء كامل المشهد السياسي والفكري التونسي. إنّ حالة التجاذب والصراع التي تصل أحيانا حدّ التصادم في المنابر الإعلامية أو تحت قبة البرلمان أو في غيرها من فضاءات ممارسة الحق السياسي والتعبيري إنما هي علامة حيوية المشهد السياسي القائم على الفرز والغربلة والتصفية. وهي المرحلة التي تسبق مرحلة البناء السياسي الحقيقي القائم على المكونات الناجية من عملية الغربلة والفرز فقط في حين ستختفي كل المكونات والبنى الهجينة التي ستلفظها الساحة السياسية بشكل تلقائي.
انطواء الرئاسة أم تواطؤها
لكن اللافت في المشهد التونسي هو الغموض الذي يلف مؤسسة الرئاسة ومواقفها المحلية والإقليمية والدولية. لن نتحدث هنا عن الموقف التونسي الباهت من الأزمة الليبية وهي نار تشتعل على الحدود المباشرة وتمس الأمن القومي المحلي في الصميم ولن نتحدث أيضا عن القضايا الدولية والصراعات على النفوذ في المتوسط على بعد أمتار من السواحل التونسية.
لن نتحدث عن كلّ ذلك لكن أن تتدخل منابر إعلامية مصرية وإماراتية وسعودية مباشرة في تأجيج الفوضى والدعوة إلى الانقلابات في تونس دون أن يصدر عن مؤسسة الرئاسة بيان يتيم يدينها فتلك معضلة كبيرة. لقد حملت الدعوات الأخيرة إلى الانقلاب اسم رئيس الجمهورية وتورط فيها أفراد ومجموعات محسوبة عليه دون أن ينكرها أو يدعو إلى الوحدة الوطنية وإلى تثمين المنجز الثوري وتشجيع المسار الانتقالي وهو الرئيس المؤتمن على البلاد وعلى المؤسسات.
لقد تآكل رصيد الرئاسة والرئيس منذ الانتخابات الماضية ولم يعد الرجل يحظى بالشعبية التي كانت له منذ أشهر بل صار كثيرون يرون فيه عبئا على المسار وحجر عثرة في طريق المصالحة الوطنية. وقد يذهب آخرون إلى اعتباره سجين فريق مستشاريه الذي صار يمسك بزمام الملفات المحلية والإقليمية من أجل أجندات وحسابات أيديولوجية داخلية وخارجية لا علاقة لها بالثورة ولا بمصلحة الوطن.
لكن الأخطر من كل ذلك إنما يتمثل في انغماس مؤسسة الرئاسة في الصراعات الحزبية وعجزها عن الترفع عن الخوض في المناكفات البينية بين مختلف القوى. وهو الأمر الذي انعكس سلبا على صورة المؤسسة وعلى الأدوار المنتظرة منها في وقت تمر فيه البلاد بتحديات كبيرة.
بناء على كل ما تقدّم فإن فشل كل المحاولات المهددة للمسار التونسي ليس في الحقيقة ناجما عن حكمة الفواعل السياسية بل هو يعود في الحقيقة إلى غياب الحاضنة الشعبية المستجيبة لصدى هذه المحاولات. لقد راكم التونسيون من التجارب خلال السنوات الماضية ما يجعلهم اليوم قادرين على إفشال كل المحاولات الانقلابية خاصة منها تلك التي تستهدف برلمان الشعب بما هو صمام الأمان الأساسي للمرحلة الانتقالية. إنّ هذا التطعيم القاعدي ضد كل أشكال الفوضى سيجعل من التجربة التونسية أمّ التجارب العربية في إنجاح مسارات التغيير نحو الدولة المدنية دولة الحقوق والحريات ودولة القطع مع كل أنواع الاستبداد والقمع.
هل تدفع الإمارات مصر إلى الغرق في ليبيا وشرق المتوسط؟
جمهورية التفوق الأبيض الأمريكية