على مدى عقود، تمكنت إسرائيل من تجنب التعامل مع قضية حقوق الفلسطينيين تحت الاحتلال، ولكن بينما يعد نتنياهو العدة لتنفيذ خطة الضم، هل يمكن الاستمرار في تجاهل هذه الأسئلة وكنسها تحت البساط.
في الخامس عشر من حزيران/ يونيو 1967، بعد خمسة أيام من انتهاء الحرب في الشرق الأوسط، اجتمعت الوزارة الإسرائيلية للمرة الثانية منذ إعلان وقف إطلاق النار.
وكان مناحيم بيغن، الزعيم التاريخي لحزب هيروت القومي – الذي أصبح فيما بعد الليكود – قد انضم إلى الحكومة قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب، بعد أن كان في السابق منبوذا من الأحزاب "الديمقراطية الاجتماعية" الحاكمة، خلال أول تسعة عشر شهرا من وجود إسرائيل.
كان بيغن متحمسا للمكاسب التي حققتها إسرائيل والأراضي التي حصلت عليها في أثناء الحرب، حيث باتت تحتل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، وكان مصرا على أن استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن.
وقال حينها: "فيما يتعلق بغربي إريتز إسرائيل (أرض إسرائيل)، فإنه يتوجب علينا ألا نعيد ميليمترا واحدا منها."
وأما فيما يتعلق بالعرب –ويُقصد بهم الفلسطينيين– الذين يعيشون في هذه المناطق، فكان لدى بيغن الاقتراح التالي: على مدى الأعوام السبعة الأولى سيعاملون كمقيمين ولكن ليس كمواطنين، وبعد تلك الفترة من الزمن، "بإمكاننا وبكل إنسانية أن نسأل كل واحد منهم ما إذا كان يرغب في أن يكون مواطنا مواليا (لدولة إسرائيل)، أو يرغب في الذهاب إلى بلد آخر، ولو افترضنا أن الأغلبية اختارت البقاء، فلا ينبغي أن يخيفنا ذلك".
مرت ثلاث وخمسون سنة، ولم تتحقق هذه الخطة على أرض الواقع، إذ ما يزال ملايين الفلسطينيين يعيشون تحت حكم الاحتلال العسكري.
إلا أن الضم الوشيك لأجزاء من الضفة الغربية يوم الأول من يوليو / تموز، جاء ليحدث هزة في الأمر الواقع، ويكون محفزا للنقاش في أوساط الطبقة السياسية الإسرائيلية بشكل لم يكن يخطر بالبال، ولا حتى قبل شهور قليلة مضت، حول ما إذا كانت إسرائيل دولة أبارتيد (فصل عنصري).
عقود من السياسة اليمينية
بعد عشرة أعوام من إشارة بيغن إلى ما اعتبره "تحرير أرض إسرائيل" خلال ذلك الاجتماع الحكومي عام 1967، جرى انتخابه رئيسا للوزراء. ومع ذلك، لا هو ولا حزب الليكود الذي كان يتبع له حاولا على مدى 43 عاما مضت، ولا مرة واحدة، تطبيق رؤيته التي كانت تقترح منح المواطنة للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، الأمر الذي كان يمكن – على الأقل من الناحية النظرية – أن يحول كل فلسطين التاريخية إلى دولة ديمقراطية واحدة.
بدلا من ذلك، أقدم رؤساء الوزراء المتعاقبون من حزب الليكود – بالشراكة مع حلفائهم في اليمين القومي والديني – على الدفع باتجاه وتشجيع توسيع الاستيطان داخل الأراضي المحتلة، منتهكين بذلك للقانون الدولي، مما ساهم في زيادة عدد سكان المستوطنات إلى ما يزيد عن 400 ألف نسمة بحلول عام 2018.
وعلى الرغم من ذلك، أخفقوا جميعا في تقديم رؤية سياسية أو برنامج سياسي يشتمل على تصورهم للوضع النهائي في المناطق المحتلة منذ عام 1967. كان للمستوطنات، فوق كل اعتبار، دور وقائي، ألا وهو التمدد في أرجاء الضفة الغربية، وفصل المدن والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض وتقطيع أوصالها، من أجل "إعاقة" قيام دولة فلسطينية مستقلة ومتلاصقة الأجزاء.
وبينما حاول الزعماء من يسار الوسط، مثل شمعون بيريز وإسحق رابين وإيهود باراك وحتى إيهود أولمرت، أو تظاهروا على الأقل بمحاولة البحث عن حل للمشكلة الفلسطينية – كما يسمونها – عبر المفاوضات، انهمك معسكر اليمين في إيجاد حقائق على الأرض، الهدف منها ضمان فشل أي حل تفاوضي من هذا النوع.
بعد أن أعيد انتخابه في عام 2009، استكمل رئيس الوزراء بنجامين نتنياهو بناء هذه الاستراتيجية التي طالما تبناها معسكر اليمين.
وبذلك يكون من جهة قد تجاهل الزعامة الفلسطينية وأوقف تماما عملية السلام، بغض النظر عن مدى ما كان يشوبها من عيوب.
ومن جهة أخرى، استمر في تشجيع بناء المستوطنات وامتنع في الوقت نفسه عن تقديم رؤية للمرحلة النهائية، أو تقديم مقترح سياسي لإنهاء الصراع، باستثناء خطابه الشهير في جامعة بار إيلان عام 2009 حيث أعرب عن دعمه لاعتراف مشروط بالدولة الفلسطينية، وهي الخطوة التي ما لبث فيما بعد أن ندم على اتخاذها.
كثيرا ما كان يطلق على هذه الاستراتيجية عبارة "الأمر الواقع"، ولكن فعليا ما هي سوى الضم بحكم الأمر الواقع بدون العبء القانوني الذي يتطلبه الضم بحكم القانون.
لطالما أكدت الشخصيات المؤيدة للفلسطينيين بأن الاحتلال ما هو سوى نظام أبارتيد (فصل عنصري) بحكم الأمر الواقع، حيث يناضل الفلسطينيون منذ أكثر من نصف قرن وهم يئنون تحت وطأة نظام عسكري يجردهم من معظم حقوقهم، بينما ينعم المستوطنون الإسرائيليون بحقوق كاملة تضمنها لهم دولة إسرائيل.
وإذ تسعى إسرائيل فعليا لإضفاء صبغة قانونية على الضم، فقد غدا صعبا التقليل من أو تجاهل المقارنات مع نظام الفصل العنصري البائد الذي كان سائدا في جنوب أفريقيا.
اليمين المتطرف يزايد على نفسه
ولكن لماذا قرر نتنياهو وحلفاؤه في أوساط المستوطنين – وبإذعان من حزب أزرق وأبيض بزعامة بيني غانتز الذي شكل معه نتنياهو حكومة ائتلافية – التخلي عن سياسة الضم بحكم الأمر الواقع لصالح الضم بحكم القانون؟
يشعر الكثير من المستوطنين بأن معركة منع قيام دولة فلسطينية قد حسمت لصالحهم، وأنه لذلك قد آن الأوان للانتقال إلى المرحلة التالية.
يحاكم نتنياهو حاليا بتهم الفساد، ولذلك فإنه في حاجة ماسة إلى دعم المستوطنين لكي يبقى في السلطة، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن مقاربته السابقة التي كانت تتسم بالحصافة.
ولما كان من المقرر أن يخلي منصب رئاسة الوزراء في تشرين الأول/ نوفمبر 2021 كجزء من اتفاق الشراكة في السلطة الذي أبرمه مع غانتز، فقد يسعى نتنياهو كذلك إلى تكريس إرثه السياسي من خلال إنجاز الضم بشكل رسمي، والقضاء تماما على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية.
يرى رئيس الوزراء في تشرذم المعسكرين الفلسطيني والعربي وفي دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غير المشروط لإسرائيل فرصة نادرة لتكريس الهيمنة اليهودية الإسرائيلية على فلسطين التاريخية.
وأيا كانت المحفزات، فثمة شيء واحد مؤكد، هو أن الضم الذي يدفع باتجاهه نتنياهو وحلفاؤه المستوطنون حاليا، لا يقل بأي حال عن الأبارتيد (الفصل العنصري) الرسمي.
في مقابلة أجرتها معه صحيفة إسرائيل اليوم اليمينية في شهر أيار/مايو، قال نتنياهو بكل وضوح؛ إن الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق التي تضمها إسرائيل لن يحصلوا على المواطنة الإسرائيلية ولا حتى على إقامة دائمة، كما كان حال المقدسيين ما بعد عام 1967.
فبينما ستصبح الأرض إسرائيلية، سوف يبقى هؤلاء المقيمون رعايا فلسطينيين، كما أكد نتنياهو، وشتان بين ذلك وبين الوضع الديمقراطي نسبيا الذي كان يتصوره بيغن قبل 53 عاما.
لا يوجد في أثناء النقاشات الداخلية حول الضم في معسكر اليمين – أو ما يطلقون عليه مجازا في هذه الدوائر "تطبيق السيادة" – من يقترح منح الفلسطينيين حقوقا سياسية كاملة.
بدلا من ذلك، يرى نتنياهو وبعض المستوطنين أن الفلسطينيين في المناطق التي يشملها الضم لن يحصلوا على أي حقوق مواطنة، بينما سيحشر الفلسطينيون المتبقون في المناطق المحتلة في جيوب يتمتعون داخلها بحكم ذاتي محدود، فيما يبدو أنه مستوحى بشكل مباشر من نموذج بانتوستانات الفصل العنصري، الذي كان معمولا به في جنوب أفريقيا.
أجرت صحيفة هآريتز في وقت مبكر من هذا الشهر مقابلة مع رئيس مجلس مستوطنة ييشا، واسمه دافيد إلهاياني، والمعروف بمعارضته الشديدة لخطة ترامب التي تسمى "صفقة القرن" لأنها تقترح إقامة دولة فلسطينية محدودة الصلاحيات. قال إلهاياني في لقائه مع هآريتز إنه يتصور منح الفلسطينيين الذين يقيمون في منطقة "ج" – التي تشكل 60 بالمائة من مساحة الضفة الغربية، وتعتبر الأكثر عرضة للضم – حق الإقامة ولكن ليس حق المواطنة، كما هو الحال في القدس الشرقية.
وقال: "إذا كنا عنوانهم ونحن الذين سنقوم على رعايتهم هم وبنيتهم التحتية، فلن يكون التصويت ذا أهمية بالنسبة لهم."
أما المستوطنون الأكثر تطرفا فتقدموا بخرائط تظهر فيها هذه البانتوستانات أكثر تشرذما مما تبدو عليه في الخطة الإسرائيلية الفلسطينية، التي يقترحها حاليا الأمريكيون وتتعرض لنقد شديد.
وفي هذا السياق، نشر عضو البرلمان بيزاليل سموتريتش، الذي ينتمي إلى حزب يامينا اليميني المتطرف، برنامجا سياسيا أطلق عليه اسم "خطة الإخماد"، يقترح من خلاله ضم الضفة الغربية بأسرها، ومنح "العرب" حق انتخاب مجالس محلية، لا أكثر.
على الرغم من أنه توجد خلافات حادة في الرأي داخل معسكر اليمين، وبينما تنتظر خطة الضم التي يقترحها نتنياهو الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة عليها، قبل أقل من أسبوع من الموعد الذي قرره بنفسه للمضي قدما في تنفيذها، فإنهم جميعا يشتركون معا في شيء واحد. كلهم يقترحون سيطرة حصرية لإسرائيل على الضفة الغربية، بينما يتم الاحتفاظ بمجموعتين من القواعد والحقوق، واحدة للإسرائيليين وأخرى للفلسطينيين.
الصمت الذي يمارسه يسار الوسط مذعنا
لم يكن نتنياهو وحلفاؤه على مر السنين وحدهم يعارضون بشدة توصيف الحكم الإسرائيلي للضفة الغربية على أنه نظام أبارتيد (فصل عنصري)، بل حتى يسار الوسط اليهودي الإسرائيلي كان دوما يتجنب استخدام مثل هذا المصطلح.
على الرغم من الوضع الدائم للاحتلال، كما أثبتت التجربة ويثبت الواقع، فلطالما فضل يسار الوسط في إسرائيل اعتبار النظام الإسرائيلي المهيمن على المناطق المحتلة وضعا مؤقتا يمكن أن ينتهي بالانفصال عن الفلسطينيين، إما من خلال اتفاق سلام يتم إبرامه بين الطرفين أو من خلال انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب.
من خلال الامتناع عن توصيف الوضع في الضفة الغربية على أنه أبارتيد – الذي يعتبر جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي – سمح يسار الوسط الإسرائيلي لنفسه باعتبار الحكم العسكري المطبق على الفلسطينيين "عبئا" على إسرائيل نفسها يتوجب عليها التخلص منه، بدلا من اعتباره منظومة منحرفة من الناحية الأخلاقية.
إلا أن قرار التوجه نحو الضم بحكم القانون، ومن ثم إقامة أبارتيد بحكم القانون، أجبر اليسار اليهودي الإسرائيلي على النأي بنفسه عن التردد في استخدام مصطلح "أبارتيد" عند الإشارة إلى الاحتلال. فخلال مظاهرة نظمت في تل أبيب يوم السادس من حزيران/يونيو ضد خطط الضم، عمد جميع الخطباء اليهود تقريبا إلى اعتبار الضم الوشيك شكلا من أشكال الأبارتيد.
والأمر لا يقتصر على كونه مسألة صياغة. فأولا، وعلى النقيض من "الاحتلال"، الذي قد يبدو مؤقتا، بل وحتى قانونيا بموجب القانون الدولي، فإن "الأبارتيد" دائم، ولا يجادل أحد في أنه وضع لا أخلاقي.
وثانيا، فإن النقيض للاحتلال هو الانسحاب، والعودة إلى إسرائيل "القديمة" خلف الخط الأخضر ما قبل عام 1967. ونقيض الأبارتيد هو الحقوق المتساوية لجميع من يعيشون في المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
وسياسات الحقوق المتساوية تختلف بشكل أساسي عن سياسات معارضة الاحتلال.
أجرى موقع إخباري إسرائيلي اسمه "المكالمة المحلية" مقابلة مع الناشط الفلسطيني والمواطن الإسرائيلي أمير فاخوري، الذي قال في المقابلة إنه يعتقد بأن "راية" معارضة الأبارتيد يمكن أن توحد معسكر "المحرومين من الحقوق" في إسرائيل، الذين عادة ما يكونون في حالة من التشرذم، الأمر الذي سيجسر الهوة بين الأقلية الفلسطينية في إسرائيل وما تبقى من اليسار اليهودي الإسرائيلي، بل وقد يأتي كذلك بالفلسطينيين من "الجانب الآخر" في المناطق المحتلة وربما فيما وراءها.
حتى لو أخفق الضم –وثمة أسباب تبعث على الاعتقاد بأنه سيفشل–، فلن يغيب هذا الإدراك الجديد لحقيقة الوضع الإسرائيلي الفلسطيني. بل إنه هنا ليبقى.
(عن موقع ميدل إيست أي"، مترجم خصيصا لـ"عربي21")
اقرأ أيضا: MEE: تنفيذ الضم يجعل الاحتلال يصارع عنصرية خلقها بيده