قمع زعيم حزب العمال البريطاني لمنافسته اليسارية سوف يكبت منتقدي إسرائيل داخل حزبه تمهيداً لإجراء الضم
لقد تمكن زعيم حزب العمال الجديد كير
ستارمر من خلال طرده لريبيكا لونغ بيلي من وزارة الظل – بحجة أنها أعادت تغريد
مقال يحتوي على ما يفترض أنه نظرية مؤامرة "معادية للسامية" – اصطياد
ثلاثة عصافير بحجر واحد.
فبادئ ذي بدء، وفر ذلك له ذريعة لكي
يخلص نفسه من آخر شخصية عمالية وازنة ذات صلة بمعسكر اليسار داخل الحزب وبزعيمه
السابق جيريمي
كوربين. فقد كانت لونغ بيلي المنافسة الأقوى لستارمر أثناء
الانتخابات التي جرت على زعامة الحزب في وقت مبكر من هذا العام، ولم يكن لديه خيار
سوى ضمها إلى حكومة الظل التي يرأسها.
ما من شك في أن ستارمر سيتنفس الصعداء
فيما لو تحققت التهديدات التي فاضت بها مواقع التواصل الاجتماعي من منتسبي معسكر
اليسار بأنهم سيتركون الحزب احتجاجاً على طرد لونغ بيلي.
وثانياً، يعتبر ذلك التحرك من قبل
ستارمر مؤشراً على أن يديه آمنتين بالنسبة لمعسكر اليمين داخل الحزب، الذي عمل بكل
جد واجتهاد على تدمير كوربين من الداخل، كما كشفت عن ذلك مراجعة داخلية سربت مؤخراً
واحتوت على تفاصيل مؤلمة جداً. فعلى الرغم من أن التقرير أثبت أن معسكر اليمين في
حزب العمال تعمد تخريب حملة الحزب في الانتخابات العامة سنة 2017 لمنع كوربين من
أن يصل إلى رئاسة الوزراء، إلا أن ستارمر فيما يبدو وارى محتوى التقرير الثرى –
تماماً كما فعلت وسائل الإعلام البريطانية.
فهو حريص على أن يثبت أنه سيعمل من
الآن فصاعداً على توجيه حزب العمال ليعود إلى حيث كان من قبل في موضع ثقة المؤسسة
النيوليبرالية كحزب من أحزاب الحكومة. وينوي أن يثبت أنه في حزب العمال صنو جو
بايدن وليس بيرني ساندرز. ولذلك يتوقع أن يكون شكل الستارمرية مطابقاً إلى حد بعيد
لشكل البليراتية.
وثالثاً، وفر طرد لونغ بيلي الفرصة
المثالية لستارمر ليشعل على الملأ غليوناً للسلام مع اللوبي
الإسرائيلي بعد معركته
الطويلة لتلطيخ سمعة سلفه كوربين بزعم أنه كان معاد للسامية.
من الجدير بالذكر أن المقال المتهم
والذي عملت له لونغ بيلي شير يتحدث عن دور إسرائيل الموثق والمثير للخلاف في تدريب
قوات الشرطة في الولايات المتحدة وفي المساعدة على عسكرتها. لم يرد في ذلك المقال
أي ذكر لليهود. وبذلك يكون ستارمر من خلال شد مصطلح معادات السامية إلى أبعد بكثير
مما يمكنه احتماله قد أثبت أن وعده بعدم التسامح إطلاقاً مع
معاداة السامية إنما
يعني في الواقع عدم التسامح إطلاقاً مع أي شخص داخل حزب العمال قد تسول له نفسه
معاداة لوبي إسرائيل – وبالتالي، بطبيعة الأمر، معاداة الحكومة الإسرائيلية.
بالمقابل، في فبراير الماضي احتفت
راشيل ريفز، عضو البرلمان والمنتسبة إلى معسكر اليمين داخل الحزب، بالسيدة نانسي
آستر، أول امرأة تحتل مقعداً داخل البرلمان البريطاني والتي كانت معروفة بكراهيتها
لليهود وتأييدها لفكرة استرضاء ومسايرة هتلر، ومع ذلك لم يزعج أي من ذلك لوبي
إسرائيل ولم يحل دون أن يرحب ستارمر بعد ذلك بأسابيع قليلة بريفز في حكومة الظل
التي يرأسها.
نفض واه لليدين
ما من شك في أن الإجراء المتخذ ضد لونغ
بيلي بدا ملحاً بشكل خاص إذا ما أخذنا بالاعتبار أن هذا الأسبوع سيشهد فتح الباب
أمام حكومة بنجامين نتنياهو لضم مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية داخل الضفة
الغربية في انتهاك صارخ للقانون الدولي، وتوافقاً مع ما ورد في خطة ترامب للسلام.
وكان كوربين في الشهر الماضي قد انضم
إلى 140 نائباً من نواب البرلمان في التوقيع على خطاب تم توجيهه إلى رئيس الوزراء
البريطاني لحثه على اتخاذ "إجراءات مشددة بما في ذلك العقوبات" ضد
إسرائيل فيما لو مضت قدماً في تنفيذ خطة الضم.
بالمقابل لم يصدر عن ستارمر سوى
التعبير عن "القلق"، حيث تجاهل ما يشكله الضم من انتهاك سافر للقانون
الدولي وما سيكون له من آثار على الفلسطينيين، واكتفى بالقول: "لا أوافق على
الضم ولا أظن أنه سيكون جيداً بالنسبة للأمن في المنطقة."
يبدو أن ستارمر لم يكن ينوي فعل شيء
سوى نفض اليدين بشكل واه – وخاصة أنه يعلم أن لوبي إسرائيل، بما في ذلك المجموعات
المدافعة عنه داخل حزبه هو مثل حركة العمال اليهودية، يمكن أن يتحركوا سريعاً ضده
كما فعلوا مع كوربين، فيما لو أقدم على غير ذلك.
لقد كان طرد لونغ بيلي من حكومة الظل
بمثابة كبش فداء تمت التضحية به إرضاء للوبي إسرائيل. ولكنه تمخض في نفس الوقت عن
إقصاء شخصية عصية على التقييد من المقاعد الأمامية لا قبل لها بأن تصمت إزاء ما
تقوم به إسرائيل وبشكل خاص إزاء قضية ضم الأراضي. كما بعث ذلك بتحذير واضح لبقية
أعضاء وزارة الظل بأن عليهم أن يراقبوا وأن يلتزموا أمر قائدهم الذي بين لهم بكل
وضوح أنه ما كان ليسمح لأحد منهم بالمخالفة.
ركوب ميسر
والآن يمكن لستارمر ضمان الحصول على
ركوب ميسر من قبل ثلاث مجموعات من النظارة – أعضاء البرلمان عن حزب العمال ومسؤولي
الحزب، ووسائل الإعلام المملوكة للمليارديرية، ولوبي إسرائيل الذي يزعم بأنه يمثل
المجتمع اليهودي في بريطانيا.
والتحدي الوحيد الذي بقي ماثلاً أمامه
هو إحكام الرقابة على أعضاء الحزب وضمان انصياعهم.
يعي ستارمر جيداً جداً أولويات السياسة
المشتركة لمختلف مجموعات النظارة التي يسعى لإرضائها. وفي الحقيقة فإن المقال الذي
أعادت لونغ بيلي تغريده – والذي أدى إلى خلعها من منصبها – كان يسلط الضوء على
الارتباط الحاصل بين المشاكل التي تأمل هذه المجموعات التابعة للمؤسسة المهيمنة
على مقاليد الأمور الحيلولة دون طرحها للتداول.
كان المقال الذي نشرته صحيفة الإندبندنت
مقابلة مع ماكسين بيك، وهي ممثلة يسارية وناشطة في حركة التضامن مع الفلسطينيين.
حينما عملت لونغ بيلي شير للمقال، وصفت بيك، وهي مواطنة في دائرتها الانتخابية،
بأنها "ماسة أصيلة".
استخدمت بيك المقابلة للتحذير من أننا
"نُحكم من قبل دكتاتوريين رأسماليين وفاشيين." وقالت إن كيانات المؤسسة
المهيمنة والتي أقيمت لحماية الرأسمالية وإبقاء الفقراء على فقرهم متجذرة
ومتمترسة، وتساءلت كيف يمكن أن يتسنى لنا "الخلاص منها".
ولاحظت أن أولئك الذين رفضوا كوربين في
الانتخابات العامة لسنة 2019 لأنه بدا لهم موغلاً في يساريته ليس من حقهم الشكوى
الآن بشأن انعدام كفاءة حكومة المحافظين التي إنما وجدت لخدمة المؤسسة وليس لخدمة
الجمهور.
أما إشارتها المقتضبة إلى إسرائيل،
والتي سببت الامتعاض – وصُنفت زوراً على نطاق واسع على أنها معادية للسامية –
فكانت مسبوقة مباشرة بتعبير بيك عن خشيتها من أن العنصرية وتوحش الشرطة باتا من
الصناعات المعولمة، حيث غدت الدول يتعلم بعضها من بعض أساليب ووسائل القمع.
وقالت لمحاورها في المقابلة:
"باتت العنصرية المنظمة قضية عالمية. فالأساليب المستخدمة من قبل الشرطة في
أمريكا، الجثو على رقبة جورج فلويد والضغط عليها بالركبة، تم تعلم ذلك في دورات مع
المخابرات الإسرائيلية."
مختبر التجارب الفلسطيني
يتمنى ستارمر وكذلك لوبي إسرائيل تشتيت
الانتباه بعيداً عن النقطة الأشمل التي كانت بيك تؤكد عليها، حيث كانت تشير إلى
دور إسرائيل المعروف جيداً في مساعدة وتدريب وعسكرة قوى الشرطة في البلدان الأخرى
بما يسمى "إجراءات مكافحة الإرهاب"، وهو الدور الذي ما فتئت إسرائيل
تمارسه منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وكما لاحظ الصحفيون والأكاديميون
الإسرائيليون فقد حولت إسرائيل فعلياً المناطق الفلسطينية المحتلة إلى مختبرات
تقوم من خلالها بتطوير أنظمة السيطرة القمعية التي ترغب الدول الأخرى في استخدامها
ضد قطاعات من السكان لديها.
إلا أن ستارمر واللوبي اختارا تعليق
لونغ بيلي – من خلال مقابلة بيك – على صنارة زعم واحد لا إثبات عليه مفاده أنها
قالت إن إسرائيل تحديداً علمت شرطة مينابوليس قبضة الركبة على الرقبة التي
استخدمها واحد من ضباطها، واسمه ديريك تشوفين، لتسع دقائق ضد جورج لويد الشهر
الماضي مما أسفر عن وفاته.
كانت بيك محقة في القول إن أجهزة الأمن
الإسرائيلية تقوم بشكل منتظم باستخدام ذلك النمط من القبضة المقيدة ضد
الفلسطينيين، وفي القول كذلك إن خبراء إسرائيليين نظموا دورات تدريبية لشرطة
مينابوليس في عام 2012. كل ذلك يمكن إثباته.
أما الزعم بأن تلك القبضة الخانقة
تحديداً تم تعليمها في تلك المناسبة بالذات فهو زعم خاطئ، وليس من المحتمل أن نعرف
أبداً حقيقة ذلك، بالنظر إلى انعدام الشفافية فيما يتعلق بالنفوذ الإسرائيلي على إستراتيجيات وأساليب قوى الشرطة الأخرى.
مثل هذا الغموض وانعدام المساءلة
والمحاسبة بشأن ممارسات الشرطة هو الأصل في إسرائيل، حيث تعامل أجهزة الأمن
الفلسطينيين بوصفهم العدو – سواء في الأراضي المحتلة أو داخل إسرائيل، حيث تعيش
أقلية كبيرة من الفلسطينيين الذين يحملون مواطنة إسرائيلية من الدرجة الثانية. أما
قوات الشرطة في الولايات المتحدة فهي تدعي، وإن كان بشكل غير مقنع في كثير من
الأحيان، بأنها تنطلق من أخلاقيات "الحماية والخدمة".
التسكين العالمي
عند اتخاذه الإجراء ضد لونغ بيلي لجأ
ستارمر، وهو محام سابق معروف بمهاراته الفائقة في الجدل، إلى افتراء زعم باطل
بحقها، وذلك حين قال في مقابلة مع البي بي سي إن مقابلة بيك مغرقة في نظريات
المؤامرة المنبثقة من معاداة السامية – مستخدماً صيغة الجمع في توصيفه، بينما لم
يرد ذكر إسرائيل إلا مرة واحدة عندما وردت الإشارة إلى استخدام أسلوب الضغط
بالركبة على الرقبة.
إضافة إلى ذلك، سواء كان ما زعمته بيك
صحيحاً أم لا، فهو من حيث المبدأ لا يعتبر معاد للسامية، فلا إسرائيل إنسان يهودي
ولا هي ممثلة لليهود بمجملهم – فيما عدا في مخيلة المعادين للسامية وعتاة الصهاينة
من مثل أولئك الذين يتشكل منهم لوبي إسرائيل.
والأهم من ذلك أنه بتنديده بالسيدة
بيك، يكون ستارمر قد تجاهل عن عمد وسبق إصرار الغابة واختار الإشارة باتجاه شجرة
وحيدة.
لقد وثق العالم الإسرائيلي وناشط
السلام المخضرم جيف هالبر بتفصيل كبير في كتابه "الحرب ضد الشعب" كيف
وضعت إسرائيل نفسها عن قصد في القلب من "صناعة التسكين العالمية" الآخذة
بالنمو، حيث تنظم الشرطة الإسرائيلية آلاف الدورات التدريبية في الولايات المتحدة
وحول العالم بناء على "خبرتهم" في العمل الشرطي القمعي والعسكري.
تملك إسرائيل الضئيلة نفوذاً في هذا
المجال يتجاوز كثيراً حجمها الحقيقي، بنفس الطريقة التي باتت فيها واحدة من العشر
بلدان الأولى – وجميع الآخرين أكبر منها بكثير – التي تستفيد من تجارة السلاح
والحرب السيبرانية. منذ عام 2007، ومؤشر العسكرة العالمي يتوج إسرائيل الدولة
الأكثر عسكرة على وجه الكوكب.
وصف أحد كبار المحللين السياسيين في
صحيفة هآرتس الإسرائيلية الليبرالية إسرائيل بأنها "أرض الإجراءات
الأمنية" – حيث غدت الدولة التي يطرق بابها الآخرون سعياً لتحسين ما لديهم من
تقنيات الرصد والمراقبة والسيطرة وقمع القطاعات النشطة من السكان داخل البلاد.
وبحسب هالبر فإن هذه الخبرة في حرب الإجراءات والأساليب الأمنية هي التي تسمح لإسرائيل
الضئيلة بنزال من هم فوق مستوى وزنها في السياسة الدولية وأكسبها موقعاً "حول
الطاولة جنباً إلى جنب مع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)."
سوء نية الغرب
والنقطة الأخيرة هي محل الشقاق والفراق
بين اليسار داخل حزب العمال، بما في ذلك عدد كبير من أعضاء الحزب الذين يقدر عددهم
بنصف مليون شخص، ومعسكر اليمين العمالي، وهنا يكمن التباين الهائل في الرؤى.
إلى جانب الوضع الطارئ للمناخ، تعتبر
إسرائيل بالنسبة لليسار العمالي رمزاً لبعض أوضح مسالك النفاق والغلو في الأجندة
النيوليبرالية العالمية التي تتعامل مع الكوكب بلامبالاة مدمرة وتزدري القانون
الدولي وتعتبر الشعوب مجرد أحجار على رقعة الشطرنج الاستعماري الحديث.
إسرائيل بتاريخها الحديث الذي بما فيه
من سلب للفلسطينيين وانتزاع وطنهم منهم، وبما تمارسه دون أدنى خجل أو وجل من ترويج
لامتيازات عرقية على نمط جيم كراو لليهود حصرياً على شكل قانون الدولة القومية،
واستمرارها في تجاهلها الصارخ لحقوق الفلسطينيين، وثقافتها الموغلة بالعسكرة،
واحتلالها المستمر منذ عقود، ورفضها صناعة السلام مع جيرانها، واندماجها العميق في
صناعات الحرب الغربية، ونفوذها في صياغة أيديولوجيات "الحرب على
الإرهاب" و "صدام الحضارات" على نطاق عالمي، واحتقارها للقانون
الإنساني الدولي، كل ذلك يعتبر في نظر اليسار من الموبقات.
وما هو أسوأ من ذلك أن إسرائيل لم تزل
تمارس كل ذلك على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي ولعقود متعاقبة. ومع ذلك تحصل
مقابل جرائمها تلك على دعم سخي من الولايات المتحدة وأوروبا، وعلى تستر من قبل
وسائل الإعلام الغربية المتعاطفة مع إسرائيل والمنغمسة مالياً وأيديولوجياً داخل
المؤسسة النيوليبرالية.
بالنسبة لليسار العمالي – وبالنسبة
لبيك ولونغ بيلي وكوربين – تعتبر إسرائيل نموذجاً صارخاً لسوء نية الغرب، ونقطة
الضعف السافرة في الخدع التي يتم نشرها بالأصالة عن النظام النيوليبرالي، لدرجة
أنها تخلق فرصة. فانتقاد إسرائيل من شأنه أن ينبه الآخرين من غفلتهم وأن يساعدهم
على فهم كيف تقوم "حضارة" غربية زائفة بتدمير الكوكب من خلال التخريب
الاقتصادي ومن خلال الحروب وتدمير البيئة.
يتيح ذلك مدخلاً إلى النقد البنيوي
والأكثر تجريداً الذي يمارسه اليسار بحق الرأسمالية والاستعمار الغربي، وهو في
العادة مما يصعب إيصاله إلى المتلقين برسائل مقتضبة عبر وسائل الإعلام المعادية.
إعادة تعريف معاداة السامية
تكمن المشكلة في أن المخاطر ذات
العلاقة بإسرائيل يفهمها اليمين العمالي إلى حد كبير بنفس الطريقة. فالتزام هؤلاء
بنظام نيوليبرالي عالمي – وهو نظام يستمد خصاله من تفوق الحضارة الغربية – يقف
مكشوفاً بشكل صارخ في حالة إسرائيل.
فلو أن فكرة إسرائيل باتت ضعيفة أمام
من يتحداها، قد ينطبق الشيء ذاته على الأوهام الذاتية والخدع حول التفوق الغربي.
بالنسبة لكل واحد من الطرفين، غدت
إسرائيل ساحة المعركة التي يجري فيها اختبار مدى صدقية رؤية كل واحد منهما للعالم.
لا يوجد لدى اليمين العمالي رغبة في
الدخول في نقاش مع اليسار بشأن الأفكار التي يطرحها، وخاصة في الوقت الذي تبدو فيه
مزاعمهم السياسية بشكل متزايد فارغة بسبب الحالة الطارئة للمناخ وصعود الشعبوية.
فبدلاً من النقاش حول محاسن الاشتراكية الديمقراطية، يفضل اليمين العمالي ببساطة
تلطيخ سمعة اليسار العمالي عبر اتهامه بمعاداة السامية.
مع صعود كوربين إلى زعامة حزب العمال
في عام 2015، غدت أزمة اليمين العمالي وجودية، فجاء رد الفعل سريعاً ومنتظماً.
شطب معسكر اليمين داخل حزب العمال
التعريف المقبول لمعاداة السامية وفرض على حزب العمال تعريفاً جديداً صاغه
الائتلاف الدولي لذكرى المحرقة، بهدف إيقاع اليسار في الشرك، حيث يركز ذلك التعريف
على انتقاد إسرائيل بدلاً من التركيز على كراهية اليهود أو الخوف منهم.
تم إحياء حركة العمال اليهودية، وهي
مجموعة مناصرة لإسرائيل، في أواخر عام 2015 من أجل تقويض كوربين من داخل الحزب.
وحظيت بنوع من التقديس حتى بالرغم من أنها رفضت المشاركة في الحملة الانتخابية
لمرشحي العمال بل وأحالت الحزب إلى هيئة المساواة وحقوق الإنسان للتحقيق في قضية
مسيسة تماماً.
وعمد اليمين العمالي إلى الخلط ليس فقط
بين معاداة اليسار للصهيونية وقضية معاداة السامية بل ودمج في كل ذلك نقد اليسار
للرأسمالية من وجهة نظر اشتراكية، حيث زعموا بأن أي إشارة إلى رجال البنوك أو
النخبة المالية العالمية إنما هي كلمات مشفرة يقصد بها "اليهود".
بعد أن ساهمت هذه الحملة المطولة في
تدمير كوربين، اختار المرشحون للمنصب من بعده، بما في ذلك لونغ بيلي، الإعلان عن
أنهم صهاينة، ووقعوا على التعهدات العشر التي وردت إليهم من مجلس المندوبين
اليهود، المنظمة اليهودية القيادية الرئيسية في بريطانيا. تمخضت هذه المطالب عن
تنصيب حركة العمال اليهودية في موقع المسؤول عن تحديد ما هي معاداة السامية، وذلك
على الرغم من انحيازهم السياسي الواضح بشأن إسرائيل ومعارضتهم للاشتراكية
الديمقراطية.
النصابون السياسيون
تكمن المشكلة بالنسبة لليمين العمالي
وللعاملين في اللوبي الإسرائيلي، وبالتالي لستارمر أيضاً، في أن إسرائيل، بتحفيز
من ترامب، تعمل ليل نهار في سبيل تفجير الادعاء الذي تمت صياغته بعناية فائقة –
والمقترح في تعريف معاداة السامية طبقاً للائتلاف الدولي لذكرى المحرقة – ومفاده
أن إسرائيل ما هي سوى دولة طبيعية أخرى على النمط الغربي، ولذلك لا ينبغي أن
"تفرد" بالانتقاد وتخص به دون غيرها.
تتجه إسرائيل نحو الصدام مع المبادئ
الأساسية للقانون الدولي من خلال الإعداد لضم مساحات ضخمة من الضفة الغربية. وليس
ذلك شذوذاً عن السياسة الإسرائيلية المعتادة، وإنما هو تتويج لعدة عقود من النشاط
الاستيطاني وسرقة الموارد من الفلسطينيين.
وقد نكون على عتبة أزمة محتملة بالنسبة
لمن هم في اليمين العمالي، والذين سيجدون أنفسهم سريعاً مفضوحين كنصابين سياسيين –
وإن كانوا دوماً نصابين – بسبب إجراءات ستتخذها إسرائيل خلال الأسابيع والشهور
القادمة.
بينما تقترب إجراءات الضم، أشار ستارمر
إلى أنه عازم على تقليص المجال الذي يسمح فيه بانتقاد إسرائيل داخل حزب العمال.
وهذا سيتيح له وللحزب الحرية لإصدار الصيغة الرسمية، والمعدة بكل عناية، للتنديد –
وقد لا تختلف كثيراً عما سيصدر عن جونسون.
ومثله مثل جونسون، سوف يلعب سترامر
الدور المقرر له في هذه اللعبة السياسية من التمثيليات – والتي طالما فهمتها
إسرائيل وتسامحت معها هي ومن يمارسون اللوبي نصرة لها في بريطانيا. سوف يرفع صوته،
ويتظاهر بالغضب، ويدعي التنديد، ولكنه سيكون تنديداً من النوع الذي لا
يسمن ولا يغني من جوع.
كان ذلك هو صميم السياسة الخارجية
البريطانية تجاه دولة يهودية أقيمت على سرقة الأرض الفلسطينية لأكثر من قرن من
الزمن. ولقد أثبت سترامر أنه يرغب في العودة إلى ذلك العرف في أسرع وقت ممكن.
ميدل إيست آي