مع بلوغ وباء «كورونا
المستجد» ذروته في مدينة نيويورك بحلول أواخر مارس (آذار) وأبريل (نيسان) الماضي،
كانت المدينة تسجل أكثر من 5 آلاف حالة إصابة جديدة ومؤكدة في اليوم الواحد، وكان
أكثر من 60 في المائة من اختبارات الإصابة بالفيروس تخرج إيجابية. وفي ولاية
أريزونا التي بها عدد مماثل من السكان – وإن كان أقل قليلا من سكان نيويورك (بواقع
7.3 مليون نسمة لأريزونا مقابل 8.3 مليون نسمة في نيويورك) – يبلغ متوسط حالات
الإصابة الجديدة حاليا حوالي 3 آلاف حالة جديدة في اليوم الواحد، مع نسبة 20 في
المائة من الاختبارات ترجع إيجابية.
ومن شأن الأوضاع أن تزداد سوءا في قابل الأيام
في ولاية أريزونا، وربما يتجاوز انتشار فيروس «كورونا» فيها معدلات انتشاره في
مدينة نيويورك في خاتمة المطاف. ولكن الطريق إلى ذلك طويل للغاية، وأعتقد أن ذلك
لن يحدث في النهاية. ولا يعني هذا القول بأن الأمور تبدو على ما يرام في ولاية
أريزونا، أو في ولاية تكساس، أو فلوريدا، أو جنوب كاليفورنيا، أو أي من الولايات
أو المدن الأخرى التي تشهد في الآونة الراهنة ارتفاعا كبيرا في عدد حالات الإصابة
بالفيروس. بيد أن الظروف المحددة التي تحيط بالأمر ومكَّنت من الانفجار المروع في
حالات الإصابة بالفيروس الفتاك، تكمن في مدينة نيويورك.
وكان من أهم هذه الظروف هو الافتقار شبه التام
للوعي والفهم، وإدراك ما يجري من حولنا قبل فوات الأوان. بحلول بداية شهر مارس، مع
تأكيد أولى حالات الإصابة بفيروس «كورونا المستجد» في مدينة نيويورك، أي إصابة
أكثر من 10 آلاف شخص في المدينة بالفعل، وفقا لممارسة للنمذجة أجريت في أبريل
الماضي. ومع رقم تكاثر الحالات (وهو عدد الأشخاص المتوقع أن يصابوا بالعدوى من
الشخص المريض) والذي جرى تقديره منذ ذلك الحين، بأن يكون ستة أشخاص اعتبارا من
أواخر فبراير (شباط) وأوائل مارس الماضي، تحول الإجمالي المذكور إلى حالة
الانفجار.
وتشير إحدى دراسات عينات الدماء المأخوذة من مرضى غير مصابين بفيروس
«كورونا المستجد» في مستشفيات «نظام ماونت سيناي» في مدينة نيويورك، إلى أن ما يصل
إلى 800 ألف نسمة من سكان نيويورك ربما قد تعرضوا للإصابة بالفيروس بحلول يوم 16
مارس الماضي، عندما اتخذت المدينة قرار الإغلاق العام للمداس، وبدء عديد من
المواطنين في مباشرة العمل من المنازل (دخل أمر التزام المنازل وعدم المغادرة في
ولاية نيويورك حيز التنفيذ الفعلي اعتبارا من 22 مارس لعام 2020).
وشهد النصف الثاني من شهر مارس الماضي بدء
الانطلاق الفعلي والكبير لإجراء اختبارات الإصابة بالمرض في الولاية، بيد أن الطلب
على إجراء الاختبارات قد بلغ معدلات ساحقة مع بلوغ هذه المرحلة في الولاية، لدرجة
أنه لم يكن يمكن إجراء الاختبار إلا على حالات الإصابة الشديدة أو حالات الإصابة
الكامنة، وبالتالي جاءت نتائج الاختبار إيجابية بمعدلات فلكية غير مسبوقة. وبحلول
منتصف شهر أبريل، ووفقا لمسح استقصائي أجرته حكومة الولاية بحلول نهاية الشهر،
أصيب ما يقرب من 1.7 مليون نسمة من سكان الولاية (أي نسبة 20 في المائة من سكان
الولاية) بالمرض، أو 12 ضعفا من عدد حالات الإصابة المؤكدة حتى هذه المرحلة.
وفي ولاية أريزونا، جرى إجراء الاختبارات على
أكثر من 15 ألف مواطن بصفة يومية، وهو مستوى لم تبلغه مدينة نيويورك نفسها حتى
مايو (أيار) الماضي. وارتفعت النسبة المئوية للاختبارات الإيجابية من 9 في المائة
إلى 20 في المائة خلال الشهر الماضي، في علامة تشير إلى أن الاختبارات لم تكن
كافية لمواكبة انتشار الفيروس المستجد في الولاية. بيد أن فيروس «كورونا» لم يخرج
بعد عن طوق السيطرة في أريزونا كما كان الحال في نيويورك في مارس الماضي، ليس بعد
على أقل تقدير. ويقدر عالم البيانات يو يانغ غو، وهو مصمم أحد أفضل النماذج
المعروفة للتنبؤ بانتشار الفيروس المستجد، أن هناك 330028 نسمة من سكان أريزونا قد
تعرضوا للإصابة بالفيروس، اعتبارا من الأول من يوليو (تموز) الجاري، أي بنحو أربعة
أضعاف رقم الحالات المؤكدة رسميا حتى اليوم في الولاية.
وعلى الرغم من تأكيدات إدارة الرئيس ترامب
المتكررة، أن الارتفاع الأخير في حالات الإصابة المؤكدة في عموم البلاد مرجعه إلى
ارتفاع معدلات الخطأ في إجراء الاختبارات، فإن الارتفاع الكبير في الاختبارات يشير
ضمنا إلى أن ارتفاع حالات الإصابة ليس بالقدر الكبير المسجل في شهري مارس وأبريل
الماضيين.
وبات الاعتقاد الشائع أن معدلات الاختبارات
الإيجابية تكافئ مزيدا من حالات الإصابة الفائتة، على الرغم من أنه من غير المحتمل
أن العلاقة الحقيقية الرابطة ما بين الأمرين غير واضحة تماما لدينا. وعلى الصعيد
الوطني في الولايات المتحدة، فإن المعادلة المعتمدة لدي تخرج بنتائج معقولة إلى حد
ما، إذ تُظهر أن 29.6 مليون مواطن أمريكي، أو ما يساوي نسبة 9 في المائة من عدد
سكان البلاد، قد تعرضوا للإصابة بالفيروس المستجد حتى الآن، وهو أدنى بقليل من
تقديرات عالم البيانات يو يانغ غو، والتي تستند إلى عدد الوفيات جراء الإصابة
بالمرض، ومعدل حالات الإصابة المقدرة لقاء حالات الإصابة المؤكدة الذي يبلغ 11.5
نقطة مئوية، لا يبعد كثيرا عن عشرة أضعاف حالات الإصابة التي أشار إليها مؤخرا
روبرت ريدفيلد، مدير مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. وبسحب المعادلة
نفسها على بيانات الاختبار لدى مدينة نيويورك، برغم كل شيء، نجد أننا أمام إجمالي
يبلغ 10.3 مليون حالة إصابة بالفيروس، وهو الرقم الذي يبدو مرتفعا قليلا بالنسبة
إلى مدينة واحدة يبلغ تعداد سكانها 8.3 مليون نسمة مثل نيويورك.
وعلى أي حال، فإن الرسالة الحقيقية القائلة
بأن حالات الإصابة بفيروس «كورونا المستجد» - التي جرى التغافل عنها - فيما بين
شهري مارس وأبريل الماضيين، مما عليه الأوضاع راهنا تبدو شبه صحيحة. وبالتالي، فإن
انتشار فيروس «كورونا المستجد» في ولايات حزام الشمس الأمريكية – ومن أبرزها
أريزونا، وفلوريدا، وتكساس – هو وفق وتيرة أقل سرعة ونطاق أقل، حتى الآن، من تلك
الوتيرة والنطاق المشهود في ولاية نيويورك وبعض المدن الحضرية الكبرى الأخرى في
ربيع العام الجاري.
وما يستتبع ذلك، بطبيعة الحال، هو التساؤل
الكبير. وأنا لست خبيرا من خبراء علوم الأوبئة، وحتى خبراء هذا المجال قد بذلوا
جهودا جبارة من أجل التنبؤ بتأثير درجات مختلفة من التباعد الاجتماعي،
والاختبارات، وتتابع الاتصال، والحجْر الصحي، وغير ذلك من تدابير الصحة العامة
المتخذة، على انتشار وباء «كورونا المستجد». وفي مجتمع ساذج تماما، ومع انعدام
إمكانات إجراء الاختبارات، وانعدام ارتداء الكمامات الواقية، يمكن للفيروس أن
ينتشر بسرعة كبيرة للغاية. لكن إن لزم كل مواطن مسكنه، فإن الفيروس يجد صعوبة
بالغة في الانتشار. وفيما بين الموقفين، هناك مجموعات لا حصر لها من السياسات
العامة المعتمدة، والتغييرات الطارئة على السلوكيات الشخصية، مع التأثيرات التي
تصعب للغاية نمذجتها.
ويبدو من الآمن راهنا الافتراض بأننا لن نشهد
انخفاضا حادا في حالات الإصابة الجديدة التي حدثت في مدينة نيويورك، وغيرها من
نقاط الإصابة الساخنة بالفيروس المستجد في وقت مبكر من شهر أبريل الماضي. وليس من
شأن التدابير البالغة القسوة التي اتخذت من قبل أن يُعاد الاستعانة بها في
المستقبل، كما أن حالات التفشي الجديدة واسعة النطاق هي أكبر من أن يسهل التحكم
فيها من خلال آليات تتبع الاتصال، أو فرض الحجْر الصحي، وهي حالات انتشار محدودة
للغاية أيضا من حيث جعل نسبة كبيرة من السكان محصنة بصورة مؤقتة على الأقل من
الإصابة بالفيروس المستجد.
ومع ذلك، فإنني على أتم الاستعداد للمراهنة
على أن انتشار الفيروس في ولايات الحزام الشمسي لن يستمر في الخروج على طوق
السيطرة أيضا خلال الفترة المقبلة. فلقد قُدرت أرقام استنساخ حالات الإصابة
الأخيرة في هذه الولايات ضمن نطاق 1.2 إلى 1.4 نقطة مئوية، وليست نسبة (+6) التي ربما
قد شاعت الأنباء بها في وقت مبكر في مدينة نيويورك.
تحاول الولايات والمدن الأمريكية المختلفة شن
الحملات، واتخاذ الإجراءات الصارمة بشأن بعض قنوات انتشار الفيروس المستجد
المعروفة، مثل الحانات والمطاعم. كما بدأت ممانعة المعسكر الجمهوري لارتداء
الكمامات الواقية في التلاشي، على الأقل بين المسؤولين المنتخبين. ولعل الأهم من
ذلك كله أنه بمجرد أن يعرف الناس أن هناك آخرين قد أصيبوا فعلا بالفيروس فإنهم سوف
يميلون إلى اتخاذ الأمر على محمل الجدية، والتعامل معه بحذر أكبر، مع تعديل
سلوكياتهم الشخصية وفقا لذلك.
وإذا ما شهدت المناطق الساخنة الأخرى، من
شاكلة ولايات: تكساس، وأريزونا، وكاليفورنيا، وفلوريدا، وغيرها، تغييرات واضحة في
ضبط السلوكيات وتعديلها، فسوف تكون من قبيل الأنباء السارة المرحب بها.
(الشرق الأوسط اللندنية)