ليس مفيدا قراءة أحداث السويداء ضمن متخيلات ورغبات سياسية تحمل الاحتجاجات أكثر مما تتحمله بناها الاجتماعية والسياسية، وبالتالي دفعها للخروج عن سياقها التاريخي الطبيعي.
لا يمكن قراءة احتجاجات السويداء ضمن متخيلات الثورة السورية، كما لا يمكن قراءتها بمعزل عن التداعيات التي أدت إليها الثورة منذ عشر سنوات.
قراءات مختلفة
ثمة فريق يضع الاحتجاجات في سياق الثورة التي بدأت عام 2011 ويعتبر كل احتجاج سوري عاملا مساعدا في تعبيد الطريق أمام الثورة لإسقاط النظام، وما احتجاجات السويداء إلا تأسيسا لحالة ثورية هي استكمال لمسار الثورة واستكمال لطبيعتها السلمية الأولى، لكن هذا الفريق يتجاهل خصوصية الكينونة الهوياتية الدرزية وذاكرتها السياسية.
في المقابل، ثمة فريق آخر ترك العنان منفلتا لواقعية سياسية لا تنظر إلى الحراك الاحتجاجي في السويداء إلا من منظار العلاقة مع النظام، لا من منظار الانقلاب على هذه العلاقة، بمعنى أن هذه الاحتجاجات وإن رفعت مطالب إسقاط الأسد والنظام، إلا أن أهدافها تكمن في تصحيح العلاقة مع دمشق ليس أكثر.
إن فهم أسباب احتجاجات السويداء أمر ضروري لمعرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه، وكيفية الاستفادة من هذه الاحتجاجات في سياق أعم يتجاوز حالة الاحتقان الحالية في المشهد الدرزي.
في منعطفات التاريخ الكبرى، تصطف الأقليات إلى بعضها البعض في مواجهة الأكثرية الطاغية، وتزداد عملية الاصطفاف حدة كلما كان للعامل الهوياتي أثره الكبير.
حدث ذلك مع بدايات الثورة السورية: اصطف العلويون إلى جانب النظام الذي يمثل كينونتهم السياسية، واصطف المسيحيون إلى جانب النظام أيضا لكن لأسباب أخرى متعلقة بالهاجس السني ـ السياسي من جهة، ولغياب حالة الاندماج الوطني التاريخي لمسيحي سوريا من جهة ثانية، في حين وقف الإسماعيليون مع الثورة بسبب الكره التاريخي بينهم وبين العلويين، وإن كان بعضهم آثر السلامة ورفض السير في الثورة خوفا من بطش النظام، أما الدروز فقد التزموا الحياد، وقد ساعدتهم في ذلك الطبيعة الجغرافية، حيث هم في أقصى الجنوب ولا يوجد تداخل طائفي مع كيانات أخرى كما هو حال الإسماعيليين في حماة.
تعبر مواقف الأقليات في سوريا على اختلافها عن غياب الانتماء الوطني العام لصالح الانتماءات الضيقة، وهذا ناجم عن غياب الدولة الأمة وغياب المواطنة، الأمر الذي جعل المصالح الجمعاتية تطغى على المصالح الوطنية العامة.
الحياد الثوري
مع بداية الثورة شهدت السويداء حراكا احتجاجيا ضد النظام، لكن هذا الحراك سرعان ما اختفى، حيث اختار الدروز الابتعاد عن الثورة في الوقت الذي قرروا فيه عدم الوقوف إلى جانب النظام ودعمه، وتجلى موقفهم هذا في رفضهم سلوك العميد عصام زهر الدين الذي كان جزءا رئيسيا في آلة القتل التي اعتمدها النظام، كما تجلى في رفضهم أولئك الذين انضموا للثورة، خصوصا كتيبة سلطان باشا الأطرش التي شكلها الملازم المنشق خلدون زين الدين.
هذا الموقف المحايد في مجمله ليس ناجما عن رفض الدروز انتقال الثورة من بعدها المدني السلمي إلى بعدها العسكري كما يرى البعض، بقدر ما هو ناجم عن ذاكرة درزية جمعية ما تزال حاضرة: تعرضت حقوق الدروز للخطر خلال حكم أديب الشيشكلي بين عامي 1950 ـ 1954، وتعرضوا في عام 2000 لعنف شديد من قبل النظام بعد أحداث البدو.
لم يجد الدروز، أو العقل الجمعي الدرزي في الثورة السورية فرصة تاريخية ـ سياسية للتغيير، فتجارب عنف النظام منذ وصوله إلى الحكم أثقلت ذاكرتهم وعطلت حريتهم، وفي لحظات التاريخ الفاصلة تغلب اللاشعور الجمعي على الشعور الفردي، فآثروا نظاما استبداديا يحفظ كينونتهم الجماعية على ديمقراطية تذرر الجماعات وتفتت الهويات العصبية.
لا بد للمعارضة السورية من فتح خطوط التواصل مع قادة الحراك الاحتجاجي في السويداء، ومحاولة إبعادهم عن ضغوطات مشايخ الدروز وربطهم بمطالب المعارضة، ولا يكون ذلك من خلال الترحيب بالاحتجاجات فقط، بل في كيفية تشكيل تحالف ثوري ووضع أجندة إعلامية وسياسية تجعل الدروز جزءا رئيسا من العمل المعارض ومن الحكم المستقبلي لسوريا.
وليس صدفة أن تطلق حركة "مشايخ الكرامة" عام 2011 شعار "حماية الأرض والعرض"، إنه شعار يحمل ما يحمل من الحياد والأنطواء.
ليس حياد الدروز خلال سنوات الثورة ناجم عن رفضهم لعسكرة الثورة، فقد يكون هذا سببا فرعيا، لكن سبب الحياد الرئيسي يكمن في غياب حالة القابلية للثورة، فالدروز لم يكونوا مهيئين للمشاركة في ثورة تطالب بإنهاء الاستبداد وإحلال نظام ديمقراطي يضمن حقوق الأفراد والجماعات على اختلافها.
القابلية للثورة
لا يطلق عزمي بشارة وصف القابلية للثورة على الحالة الاجتماعية التي تعاني الظلم فقط، وإنما على الحالة الاجتماعية التي تعاني الظلم، ويكون فيها الأفراد أيضا قادرين على رؤية إمكانية التغيير حتى يصبح المجتمع ذا قابلية للثورة.
هذا الوصف أو هذه الحالة انطبقت على الثورة السورية لحظة اندلاعها، فأحداث تونس ومصر وليبيا منحت فرصا سياسية ووعيا جديدا لفئة واسعة من السوريين في رؤية إمكانية التغيير، لكن هذا الأمر لا ينطبق على الاحتجاجات في السويداء.
ضمن هذا السياق التاريخي يجب وضع احتجاجات السويداء الحالية، فالشعارات التي حملها الحراك الثوري الآن بإسقاط النظام ليست ناجمة عن رغبة في إحلال النظام الديمقراطي والمواطنة ودولة القانون، بقدر ما هي شعارات تعبر عن استياء المكون الدرزي من التردي الحاد في الأوضاع الاقتصادية من جهة ومن الانتشار الأمني المكثف وعمليات الخطف والابتزاز من جهة ثانية.
ويمكن القول إن الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات هي رفض الطلبة تجنيد بعض المدرسين في قوات النظام ومعاقبة المتخلفين بالفصل الوظيفي، والغضب العارم إثر مقتل 15 عنصرا من أهالي السويداء ينتمون إلى ميليشيا "الدفاع الوطني" المؤيدة للنظام بعد اشتباكات مسلحة اندلعت نهاية آذار (مارس) الماضي في بلدة "القريا" مع فصيل أحمد العودة التابع للفيلق الخامس المدعوم من روسيا.
إن جماعة تضع مصلحتها في المقام الأول وتنطلق احتجاجاتها من مطالب آنية، لا يمكن أن تكون جزءا من حراك اجتماعي ـ سياسي لإنهاء النظام الديكتاتوري وإحلال النظام الديمقراطي.
لكن إذا كانت مهمة علم الاجتماع هي تفسير الظواهر ومعرفة أسبابها، فإن هذه المهمة ليست على عاتق العمل السياسي الذي يهتم في كيفية الاستفادة من الظاهرة.
من هنا، لا بد للمعارضة السورية من فتح خطوط التواصل مع قادة الحراك الاحتجاجي في السويداء، ومحاولة إبعادهم عن ضغوطات مشايخ الدروز وربطهم بمطالب المعارضة، ولا يكون ذلك من خلال الترحيب بالاحتجاجات فقط، بل في كيفية تشكيل تحالف ثوري ووضع أجندة إعلامية وسياسية تجعل الدروز جزءا رئيسا من العمل المعارض ومن الحكم المستقبلي لسوريا.
*كاتب وإعلامي سوري
قانون "قيصر" جاء في الوقت الضائع!
الحرب الأمريكية على العملات الوطنية لإيران وحلفائها.. هل من جدوى؟