قانون قيصر ضد
سوريا صدر عن الكونغرس الأمريكي، وتبنت إدارة دونالد ترامب تنفيذه لتضيفه إلى ما ضربته من حصار ضد سوريا، وأصدرته من
عقوبات اقتصادية، وما مارسته من تآمر طوال سنوات، تعد بالعقود. ويجب ألاّ تُرى هذه السياسة معزولة عن صفقة القرن، وضم الضفة الغربية كذلك.
وكما قال الشاعر "كاد المريب أن يقول خذوني"، كان حال إدارة دونالد ترامب حين أعلنت أن قانون قيصر غير موجّه ضد الشعب السوري. أما كيف فليس عندها ما تقوله في هذا الصدد سوى هذا الإعلان، وهي تعلم أن قانون قيصر يضرب أول ما يضرب بالشعب السوري، لأنه قانون يهدف تعطيل عمليات التصدير والاستيراد، وفي المقدمة، ما له علاقة بالأساسيات، مما نجم عنه فوراً هبوط العملة الوطنية، ومن ثم غلاء بالأسعار وتآكل بالمداخيل والمدخرات، وإضرار بكامل الوضع المعيشي لجماهير الشعب وصعوداً إلى الطبقات الوسطى.
فكيف لا يكون قانون قيصر هو قانون لتجويع الشعب السوري، وزيادة مصاعبه الحياتية؟
وإذا أخذ بعين الاعتبار العلاقات التاريخية والاقتصادية والجغرافية بين سوريا ولبنان، فإن قانون قيصر يمتد تلقائياً ليشمل الشعب اللبناني ليكون، بعد الشعب السوري، أول من يتضرر منه؛ لأنه يعاقب كل من يتعاطى اقتصادياً مع سوريا، ولو عن طريق العبور (الترانزيت). ومن ثم لا تستطيع الإدارة الأمريكية أن تغسل يديها، هنا أيضاً، من سياسة ضرب الاقتصاد اللبناني حتى تجويع الشعب.
ثم يأتي ما تعتبره الإدارة الأمريكية الهدف السياسي الذي تريد من قانون قيصر أن يحققه، وهو "تغيير النظام لسلوكه"، وذلك من خلال ما سيتركه القانون من إضرار بالاقتصاد السوري، ومن تجويع للشعب. مما يؤدي إلى تحقيق هدف تغيير سلوك النظام.
على أن الإدارة الأمريكية الحالية عوالإدارات السابقة تعلم علم اليقين أن هذه الضغوط لن تؤدي إلى إخضاع القيادة السورية لتغيير "سلوك النظام"، وهذا ما أكدته تجربة عشرات السنين من الحصار والضغوط والتآمر. ومن ثم يكون الهدف الحقيقي من قانون قيصر هو تجويع الشعب وتعطيل الاقتصاد حين لم يكن وارداً تحقيق الهدف السياسي، مما يجعله تعبيراً عن سادية فاضحة، وعداوة مستفحلة ضد الشعب السوري.
صحيح أن المثل العربي يقول: "الذي يجرّب المجرّب عقله مخرّب" ولكن ذهاب الإدارة الأمريكية إلى تجريب المجرّب هنا لم يأت من عقل "مخرّب"، مما يؤكد أن تجويع الشعب هو المستهدف لذاته، سواء أكان بدواعي الانتقام منه، أم كان بدواعي السادية، فليس وراء قانون قيصر هدف آخر؛ لأن من "يجرّب المجرّب" هنا (إدارة ترامب) تعلم علم اليقين أن لا سبيل لها لإخضاع القيادة السورية.
وبالمناسبة إن "العقل المخرّب" الذي يشير إليه المثل هو الذي يجرب الفشل المجرّب على أمل النجاح هذه المرة، أما إذا كان متيقناً من الفشل فسيكون عنده هدف آخر غير الذي يُعلِن.
هذا بُعدٌ، أما البُعد الثاني فهو التأكيد على أن أمريكا ما زالت تقوم بمهمة شرطي العالم الذي يُنزل العقوبات بمن يخالفه، وذلك ليكون عبرة لمن يفكر بتحررٍ واستقلالٍ وكرامة، الأمر الذي يعني، على المستوى العربي والإقليمي والعالمي، أن الذهاب إلى تنفيذ قانون قيصر ليس هدفه الشعب السوري فحسب، وإنما الشعوب بعامة. وهو منهج، أو منطق، مارسته أمريكا في الكاريبي وأمريكا الجنوبية قديماً، أما مع نهاية الحرب العالمية الثانية فقد ضربت اليابان بالقنبلة النووية في الوقت الذي استعدت فيه قيادة الإمبراطور الدخول في شروط الاستسلام.
صحيح ثمة بُعد انتقامي سادي في ضرب الشعب الياباني بالنووي، ولكن البُعد الأهم كان الدرس الذي أُريدَ تلقينه لشعوب العالم، وفي مقدمها الاتحاد السوفيتي وأوروبا. فتأكيد الدور الإمبريالي القادم لأمريكا، وتأكيد دورها كشرطي العالم، كان وراء ضرب الشعب الياباني بالنووي.
وهنا يبرز السؤال الذي يفترض به أنه يُواجِه كل إنسان وكل دولة في العالم، وهو بأي حق تأخذ أمريكا على عاتقها مهمة شرطي العالم الذي يجد من حقه قتل معارضيه بالجملة، أو إنزال عقوبات الحصار وتجويع الشعوب لتكون عبرة لمن يعتبر؟ وذلك بعيداً من الهدفين الوهميين، بأن الإدارة الأمريكية لا تستهدف الشعب وإنما تهدف إلى تغيير سلوك القيادات التي تعارضها، أو أنها تدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد أثبتت التجربة العالمية أن النتيجة الوحيدة المحققة هي إسالة دم الشعب، أو تجويعه حتى الحد الأقصى، ولكن بلا هدف سياسي قابل للتحقيق أو الاستجابة له من قِبل القيادة المستهدفة.
هذا ما حدث مع كوبا ومع كوريا الشمالية، ومع العراق، ومع فيتنام ومع سوريا وإيران، ومن قبل جربته بريطانيا، أيام كانت العظمى، مع الاتحاد السوفييتي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. ولم تحقق أية عملية حصار ومقاطعة وعقوبات الأهداف المعلنة: إسقاط النظام أو إخضاعه للشروط المعلنة، أو الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومع ذلك، فالبلطجة العالمية تقتضي اللجوء إلى السياسات التي تستهدف الشعب بالتجويع والاختناق الاقتصادي من أجل القيام بدور شرطي العالم، وذلك بالرغم من مخالفتها الصريحة للقانون الدولي والمواثيق الدولية والاتفاقات الدولية، وبالرغم من تسميمها للعلاقات بين الدول، وتحويل العالم إلى قانون الغاب. ولكن البلطجة تصر على الادعاء بأنها حريصة على حقوق الإنسان وحياة الناس والعلاقات الدولية السليمة، ولكن ما ينبغي لساذج أن يصدق ذلك.
طبعاً لا أحد يستطيع أن يمنعها من ادعاء ما تريد، ولكن المشكلة بالذين يسكتون عليها حتى لو كانوا من حلفائها أو كان يسعدهم أن تطغى على من يعتبرونهم أعداء، ولكنه موقف لا يليق بهم إذا كانوا صادقين مع أنفسهم، ويحترمون القانون الدولي، أو العدالة بين الدول، أو حقوق الإنسان.
ولهذا فإن الموقف ضد قانون قيصر يجب ألاّ يقتصر على من يناهضون أمريكا أو يناصرون الشعوب المظلومة، أو يرفضون ما تواجهه سوريا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية من حصار وعقوبات، وإنما يجب أن يتبناه كل من يحترم نفسه، ويعلن أنه مع حقوق الإنسان، والعدالة بين الدول والشعوب، والتقيّد بالقانون الدولي.
الجميع يجب أن يقف وقفة واحدة في رفض ممارسة أمريكا لدور شرطي العالم والبلطجي العالمي، وذلك من أجل أن يقوم في العالم نظام أكثر عدالة وإنصافاً واحتكاماً للقانون الدولي، وميثاق هيئة الأمم المتحدة. أما ترك أمريكا تشرّع للوضع العالمي قانون الغاب، فالثمن غالٍ على الجميع محلياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً.