يتباهى الأمريكان بأنهم أكثر الشعوب المسيحية تدينا، وهذا صحيح ولكن بمعيار أنهم أكثر ميلا من غيرهم للالتجاء إلى المسيح شفاهة، وأنهم الأكثر ارتيادا للكنائس، وقد ظل الساسة الأمريكيون يلوذون بالإنجيل لإثبات صدقيتهم وحسن سيرهم وسريرتهم، ومن شابه قادته فما ظلم.
(قال أعرابي لرجل: ما اسمك؟ قال: عبد الله. قال: ابن من؟ قال: ابن عبيد الله. قال: أبو من؟ قال: أبو عبد الرحمن. فقال الأعرابي: أشهد أنك تلوذ بالله ليّاذ لئيم جبان).
ثم تستعرض المشهد الديني في الولايات المتحدة، فيخيل إليك أن كل شريحة وفئة من أهلها لديها مسيح خاص، ففيها اليوم ثلاث وثلاثون كنيسة لا رابط بينها سوى "الرب"، ولكن حتى هنا لا يكادون يتفقون، فمنها من يؤمن بربوبية المسيح ومنها من يفصل بين المسيح البشري والرب، ومنها من يقودها "مسيح معاصر".
وبمنطق مفيش حد أحسن من حد، وعقلية و"نجهل فوق جهل الجاهلينا" ابتدع بعض الأمريكيين السود إسلاما خاصا بهم، ونصب إلايجا محمد نفسه نبيا مكلفا بإعادة بعث الإسلام، مع بعض التعديلات التي تكفل له مساندة بني قومه السود، فكان أن قال بأن الملائكة سود بينما الشيطان أبيض، وجعل الصوم في كانون أول (ديسمبر) من كل عام، ولما صار تلميذه مالكوم إكس يفند تلك المعتقدات ثم يصرح بأنها تخالف صحيح الإسلام، أمر بقتله.
النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة لا يسمح بوجود فرد واحد معبود، ومن ثم صارت الأرض الأمريكية مرتعا خصبا لطوائف لكل منها كهنتها وسدنتها وأنبياؤها الكذبة،
عبادة الأفراد متأصلة في كثير من الثقافات، خاصة الشرقية منها، وهكذا صار بوذا نبيا رغم أنه لم يدع النبوة، بل قدم نفسه كمصلح سياسي واجتماعي وقائد روحي، ومنع الحزب الشيوعي في كوريا الشمالية عبادة "الله"، ولكن الزعيم المؤسس لتلك الدولة كيم إيل سونغ ارتقى بنفسه إلى مراتب الألوهية، ها هو حفيده ورئيسها الحالي يطرح نفسه إلهاً ملهما لا يأتيه الباطل من قُبُل أو دُبر.
وما أن تسنم ستالين كرسي القيادة في الاتحاد السوفييتي حتى نصب نفسه مسيح الماركسية، وبما أنه درس اللاهوت قبل اعتناقه الماركسية، فقد كان يعرف كيف يوحي للشعب بأنه يعرف خابئة الأعين وما تخفي الصدور، فقضى بأن الملايين ومن بينهم كثيرون من كبار معاونيه خونة وقضى عليهم، وبمزيج من الترويع والبروباغندا نجح في إقناع شيوعيين حتى خارج بلاده بأنه مسيح الماركسية المنتظر.
النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة لا يسمح بوجود فرد واحد معبود، ومن ثم صارت الأرض الأمريكية مرتعا خصبا لطوائف لكل منها كهنتها وسدنتها وأنبياؤها الكذبة، فإلى جانب عشرات الكنائس ذات التعاليم الخاصة بكل واحدة منها، تنهض معابد لمعتقدات يبشر بها أشخاص معاصرون، ورغم أن وقائع متلاحقة تثبت أن كثيرا من تلك الطوائف مشبوهة التعاليم بل وإجرامية الطابع، إلا أنه ما أن تنهار طائفة إلا وقامت بدلا عنها بضع طوائف تختلف عن تلك المنهارة في أمور وتتفق معها في الكثير.
في سبعينيات القرن الماضي كانت طائفة بوابة السماء هي "الموضة الأمريكية"، ثم وفي آذار (مارس) من عام 1997 أمرهم مرشدهم الروحي بتناول أقراص مخدرة ووضع أكياس بلاستيكية حول رؤوسهم فكان أن مات منهم 39 على الفور.
كان جيمس وارين جونز قسا معتمدا في مدينة سان فرانسيسكو، ولكنه رأى أن يصبح زعيما روحيا ذا تعاليم خاصة، ولهذه الغاية هاجر مع مريديه إلى غيانا في أمريكا الجنوبية، ولما أرسلت المباحث الأمريكية فريقا للتحقيق في ما تردد من انتهاكات لحقوق الإنسان في المعسكر الذي أقامه لأتباعه، أمر جونز بقتل أعضاء الفريق، ثم أقنع جميع الأتباع بتناول سم السيانيد فكان أن مات 918 منهم على الفور، ومن بينهم 304 أطفال.
في شباط (فبراير) من عام 1993 توجهت الشرطة الاتحادية لاعتقال ديفيد كوريش زعيم طائفة الداووديين في واكو في ولاية تكساس بعد وصول معلومات تفيد بأنه يتحصن وأتباعه في مبنى أشبه بالقلعة، ولديهم مخزون هائل من الأسلحة غير المرخص بها، وبأن النساء الداووديات من جميع الأعمار يتعرضن للعنف الجنسي، وصمد كوريش وأصحابه في وجه الحصار الأمني 51 يوما، ولكن ما أن نفذت مؤنهم حتى أشعل كوريش النار في المبنى، فكان أن هلك 75 منهم حرقا، واتضح ان كوريش اختار وسيلة أسرع للموت بأن أطلق النار على رأسه.
وبالمقابل خرج تنظيما القاعدة وداعش من تحت عباءة الإسلام، ولا يقر معظم المسلمين أفعالهما الدموية، ولكن الأمريكيين يعتقدون أن جميع المسلمين قاعديون ودواعش، أما دواعشهم فهم في نظرهم أقلية مارقة، بينما لا يقبلون حقيقة أن أتباع القاعدة وداعش "أقلية" في العالم الإسلامي، بل لا ينتبهون إلى حقيقة أن الجماعات الجهادية المتطرفة لا تقتل بنيها وبناتها كما يفعل المتطرفون الأمريكان باسم الدين.
وهكذا فإن الأمريكيين وكما جعلوا أنفسهم شرطة العالم، نصبوا أنفسهم قضاة في كل مجال، يحتكمون إلى نصوص مطاطية تجعل منهم أخيار العالم، ومن يخالف نهجهم أعضاء في محور الشر، ولهذا يرمون غيرهم بشرورهم وينسلون.