لا يعرف الجنرال عبد الفتاح
السيسي وأتباعه من
العسكريين سوى رأي واحد أوحد على طريق مفروش بالقنابل ورفض رياحين الحرية، بل قهر الرافضين لقراره ولو كان رفضهم مُستترا بين طيّات أنفسهم وفي أعماق قلوبهم؛ ولو أخفوا غُبنهم وشعورهم بالظلم بتلافيف أرواحهم.
فالقرار العسكري أذنابه وذيوله وثعابين وجوده تسعى منذ آلاف السنين، وحاكم اليوم القاهر للسلطة هو الوريث الشرعي الرسمي النظامي للحاكم الفرعوني بشعاره الخالد: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (من الآية 29 من سورة غافر)، وهو ما ترجمه الشاعر العراقي الراحل أحمد مطر، إذ قال في مقدمة صوتية نثرية للافتاته بأمسية قديمة متناولا الشعوب التي يُريدها العسكريون: "ونؤمن بصحف وإذاعات الأنظمة أكثر مما نؤمن بالله"، وفي الوقت نفسه يُدمن السيسي ونظامه بيت الشاعر عمران بن حطان القائل:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة*** ربداء تجفل من صفير الصافر!
إذ إن الجنرال يشاهد بأم عينيه تعنت إثيوبيا وتهديدها وصفيرها بتعطيش وتجويع
مصر والمصريين، فلا يملك إلا أن يكون "ربداء تجفل من صفير الصافر". وقد عَبّدَ أسلاف الجنرال الحالي من العسكريين الطريق له؛ لكي لا يؤمن الشعب إلا بصحة وسلامة نظرياته، وإن أودت بحياته ودمرت البلاد والأجيال بطرق منها التخلي التاريخي عن حصة مصر التاريخية في النيل.
منذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والحديث عن "وهم الرخاء القادم" يبدأ.. حتى مع تقلص مساحة مصر، وتركه السودان جنوبا في عام 1956م، وقد كان يتبع مصر منذ عام 1822م بحدوده المشتركة مع إثيوبيا، وفي حال استمراره مع مصر عموما، كما كان يُخططُ وصرح الرئيس الراحل الأسبق محمد نجيب في كتابه: "كُنْتُ رئيسا لمصر"، كان سيصب في النهاية في منع قيادات إثيوبيا من حرية التصرف الحالية في النيل والتعنت مع مصر والسودان ولو بدرجات، ولذلك ذُكِرَ أنه في عهد الملك فاروق رفضت مصر الجلاء الإنجليزي مقابل ترك السودان، وهو ما وافق عليه عبد الناصر بل عده نصرا!
وتطور الأمر مع عبد الناصر بعد أحد عشر عاما؛ فأُجبِرَ على التنازل عن غزة شرقا في 1967م، في هزيمة مدويِّة ما تزال الأمة تعاني من سكراتها، ومنها فُقِدَ جزء عزيز من فلسطين، بخاصة القدس الشرقية؛ وضياع هضبة الجولان. وبرغم كل هذا خرجت الجماهير المخدوعة للشوارع لتردد كالببغاوات، بحسب قول أمير الشعراء أحمد شوقي في موقف مُشابه في الفصل الأول من "مصرع كيلوباترة": "يا له من بَبَّغاء عقله في أذنيه".
وجاء السادات بنصر في أكتوبر 1973م، آثر أن يُحجمه ثم يُرديه بصلح أدى إلى مقتله؛ وبين هذا وذاك لم يقصر في الاستمرار بمداعبة خيال بسطاء المصريين بأوهام الرخاء الذي سيأتي كطائر الرخ مع كامب ديفيد، وإن لم يفرط بالنيل لإثيوبيا فقد وعد بنقله للكيان الصهيوني.
وأورث السادات ملكوته لأخيب رجالاته، حسني مبارك، الذي كان عسكريا حتى الثمالة وخادما لأسياده أكثر مما يُراد له، حتى إن هيكل ليروي في كتابه: "مبارك من المنصة للميدان"؛ أن الأخير كان إبان دراسته في الكلية الجوية عندما يسمع نفير طابور الصباح، يقفز عبر نافذة غرفته في الطابق الأول من السرير مباشرة إليه. ومن ضمن عسكريته المُفرطة نومه في أثناء خطابات السادات العامة، لكنه لما قُتِلَ السادات أمام عينيه رُوِيَ أنه قال لمصطحبيه من المنصة الفائرة بالدماء: "أنا كنتُ مجرد موظف أفعل ما يُملى عليَّ؛ فلا ذنب لي إذ إنني لم أكن صاحب قرار"، حيث ظن أن مُصطحبيه (للنجاة به من القتل) تابعون لقتلة رئيسه. وهو نفسه من بعدُ الذي وقف أمام القصر الجمهوري في الاتحادية بمصر الجديدة في مساء يوم رئاسته الأول، راقصا طاويا بيديه نصف جاكت بذلته المدنية التي يرتديها لأعلى صارخا: "وبقيت ريس.. وبقيت ريس"، بحسب رواية الدكتور يحيى الجمل، الأكاديمي والقانوني ونائب رئيس الوزراء المصري الأسبق.
ولذلك؛ ففي عهده استمر تبوير الأراضي الزراعية حقنها بالمسرطنات القادمة من الكيان الصهيوني، وأصيب مئات الآلاف من المصريين وتوفوا بالسرطان؛ كما تم تجفيف منابع العقل والفكر والفن، بالإضافة لغضب مبارك من إثيوبيا وكل ما يخصها؛ وإن كان ملف نهر النيل بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا عام 1995م.
ولما ضاق المصريون بأسرهم وذلهم وأرادوا إبدال قبعات العسكر ببذلات مدنية حقيقة تحكمهم ديمقراطيا؛ فتقودهم للحياة الحقيقية لا العسكرية الواهمة المزيفة، أذاق العسكريون المصريين الشرفاء فنون المعاناة وألوان المكر والدهاء حتى أجلوهم عن ثورتهم، وأزاحوهم عن ديمقراطيتهم المُشتهاة (التي هي ليست أفضل نظم الحكم بحسب رئيس البرلمان المصري)، ولم يكن الثوار في المقابل للأسف على جانب مناسب من الفطنة والمنطقية، حتى جاء الجنرال السيسي ونخبته بخدع مقززة، منها أن فيروس كورونا خدعة من عمل قوى الشر، بحسب المُمثل المصري المُعمر حسين فهمي منذ أسابيع لإحدى المحطات الفضائية.
ولكننا في المقابل نعول كثيرا على مُكتشفي الحقيقية الواعين الذين يشتاقون ويحلمون فيُنشئون جيلا جديدا على ذكرى ونهج 11 شباط/ فبراير 2011م، حيث نعمت مصر إلى حين بأنفاس حرية هائلة رغم عظم التحديات، وأرهبت أعداءها وكبحت جماح المطامع الإثيوبية وحلمها في الاستفادة من نصيب مصر من النيل.