كففنا عن عدّ الشهداء، بعد أن عجزنا عن الحصر، وسبب استشهادهم هو الصدق، ولو كذبوا لعاشوا. كفّت الصحافة والناشطون عن عدِّ أكاذيب ترامب، وأكاذيب
السيسي تحت القسم، والذي كلما ضاقت عليه كذب وأقسم، ولو كانت لديه موهبة تأليف، لكتب كتاباً عنوانه: كيف تقفز على الرئاسة بخمسة أحلاف كاذبة. وحافظ
الأسد أقسم على الدستور بشرفه ومعتقده (تعالياً عن القسم بالله)، أن يحافظ على الدستور والقانون ومصلحة الشعب. فهو يعبد نفسه.
كما خُدعنا قليلاً أو كثيراً بقيس سعيد، فذكّرنا بإعلان تلفزيوني شهير وقديم: تقول فيه ليلى لقيس بن الملوح: هل جئت لتراني يا قيس؟ فيقول: لا جئت لأرى تلفزيون سيرونكس.. وجاء قيس ليعانق ماكرون، ذلك العناق في زمن كورونا، والتباعد، وهو ينحني بطوله الفارع على كتف ماكرون.
وقد خُدع كثيرون بلغته التي وُصفت بأنها خطابية وفخمة، لغة تشبه لغة سعيد الصحاف، وأحمد سعيد، وأضحكني قليلاً، وهو يروي قصة عن عمر بن الخطاب مع الأسرة الجائعة ومعه "أحد الأعوان"، وهكذا صار غلامه "أسلم" أحد الأعوان، وقيس لا يزال بخير مقارنة بغيره.
هناك أساليب كثيرة في الكذب، أولها:
أسلوب التكرار الألماني
الأسلوب الألماني هو أسلوب غوبلز في تأميم الكذب، ولنسمّه بأسلوب التكرار، حسب نصيحة غوبلز: اكذب اكذب اكذب حتى تُصدق. والذي يكذب هو وزير إعلام، ولديه إمكانات دولة جبارة.. يكذب وزير الإعلام أو الرئيس ولا تستطيع أن تلحق به إلى باب الدار (عملاً بالمثل الشهير) فهو تحرسه كلاب وجنود، كما حبيبة ولد عبد الحليم حافظ.
في حكاية الراعي الكذاب الذي كان يمازح أهل قريته مستغيثاً بهم: الذئب.. الذئب، انكشفت كذبته من ثالث كذبة، ولم يكن الراعي وزير إعلام، ولو كان لصدّقوه، لكن عصرنا مختلف، وهو عصر الفوتوشوب، والذئب متنكر ويصعب كشف قناعه، والكذاب ظريف، يتحلى بالنكتة، وهيئته رسمية، وزيّه نظيف، والنكتة حلوى، وهي إحدى أكبر الأساليب في الكذب والخداع.. يمكن أن نتذكر عادل إمام، الذي صار زعيماً بالحلوى والكذب.
وأكل الذئب القطيع، ونحن نضحك.
القلب والإبدال والإنكار
الأسلوب السوري الرسمي في الكذب هو القلب والإبدال والإنكار والتشويه والتحريف. النظام اتهم الشعب بالفبركة أي الاختلاق.. المظاهرات مؤامرة قطرية، وتجمعات للاحتفال بالمطر، وهذه إحدى الطرائف الخيالية، فلم يحدث أن احتفل الشعب السوري بالمطر وهو يهتف الشعب يريد إسقاط النظام! لكن بينهما قرينة وهي السقوط، فالحمد لله. وهو حتى الآن ينكر كل شيء. وقد مضت تسع سنوات على الثورة: لا ضحايا، النظام مثالي، مات بعض السجناء بالسكتة القلبية، الرئيس رسول من السماء أو دونه بقليل، أو أكثر منه بقليل، والدول تتآمر عليه، والحياة سعيدة ودليل ذلك هو مصنع الأكاذيب؛ الأستوديو، والحصار هو وعكة صحية عارضة، والأزمة ستمرّ.. الشعب عظيم، وستعود الحياة السعيدة، أما الفن التلفزيوني فهو للعرض فقط، مثل الدستور السوري، وممنوع الاقتداء به. إذا لم تصدق ما نقول فأنت مقتول. اللون أحمر.
الاستحمار
هو الأسلوب المصري، وتجد صحف مصر وتلفزيوناتها الرسمية تكذب في عدد الطائرات التي أسقطها جيش مصر إبان حربها مع إسرائيل، من غير ضرورة للكذب. وفي الفن والسينما، الشرطي مثالي، نظيف، أبيض الثياب، يأتي في اللحظة المناسبة، ويمكن أن نسميه الأسلوب الفرعوني، ونجد صورة مبارك وهو يتصدر قادة الأمم على صحفها، ويكفيه أن يسير معهم: إنها الفرعونية. والسيسي يهرف بما لا يعرف، ويحارب سنوات في سيناء ويدمرها، وهو يتهيأ لاقتحام ليبيا، والمحللون والفقهاء والمفكرون يتسابقون إلى شرح كلماته، والتغزل بعينيه، ثم وجدناه مع عمر المختار مع جيش من المطربين!
الأسلوب الأمريكي: الصدق في الكذب!
وهو الأسلوب الأذكى، وفيه صدق نادر لا نجده في الأسلوب الألماني والأسلوب المصري والأسلوب السوري.
هناك فيلمان شهيران عن الكذب، صنعتْهما هوليود، التي خلبت لبّ العالم بأكاذيبها وخدعها وحكاياتها السحرية، كما خلبت ثعابين سحرة فرعون ألباب قومه.
الأول فيلم عنوانه "اختراع الكذب"، وهو فيلم رومانسي خيالي كوميدي أمريكي أنتج في سنة 2009، من إخراج ريكي جرفيه، وماثيو روبنسون، وبطولة ريكي جرفيه، وجينيفر غارنر. القصة تتخيل أن البشر لا يعرفون مفهوم الكذب في الفيلم، وهم صادقون، وخشنون طبعاً، فالصدق قاس. يقرر بطل الفيلم، وهو مؤلف في شركة سينمائية، أن يكذب، فينجح في العمل، ويثير إعجاب حبيبته التي تراه قصيراً وبديناً وأحمق بكذبه؛ الذي لا يخلو من الصدق أحياناً، كما أنه يوهم الناس بالجنة والنار في موعظة وقصة خيالية، فيسعدون، وينتهي الفيلم بحب البطلة له والزواج منه بعد أن كذب عليها.
هناك فيلم أفضل من اختراع الكذب عنوانه "البطل". بيرني شخص عصبي يفقد عمله وتطلقه زوجته وتحصل على حضانة الطفل.. بيرني هارب من العدالة، لتورطه بديون وضرائب واحتيالات.. أثناء عودته للمنزل يفاجأ بحادثة طائرة، فيهرع لإنقاذ ركابها مكرهاً، ففيه بقية من نخوة، ويفقد فردة حذائه، ويهدي الفردة الأخرى لسائق أقلّه من هواة جمع اللقى والأثريات. تقوم وسائل الإعلام بالبحث عن صاحب الحذاء لتكريم البطل المغوار، فيدّعي السائق أنه البطل، والبرهان فردة النعل، فيصير بطل أمريكا وتلهج بذكره الأخبار، ثم ينتهي الفيلم بصفقة بين البطلين النصابين، فيتقاسمان البطولة!
معركة الصدق والكذب:
في الإسلام، الكذب هو الحد الفاصل بين الإسلام والكفر!
وقد ابتدع هرقل أول جهاز معروف في التاريخ لكشف الكذب، عندما طلب أبو سفيان وبعض تجار مكة، للسؤال عن النبي عليه الصلاة وللسلام، والقصة:
"فأتوه (هرقل) وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأسروا عليّ كذباً لكذبت عنه..".
أخبرتنا الزميرة
أصالة نصري أن الكذابين العرب فيهم خير كثير، فقد جمع أقطاب الحب والدولار أنفسهم في أغنية تذكارية.. والكذب ليس في ثوب أصالة الأحمر، وليس في دسّ صورة عمر المختار في المشهد، فقد أحبوا أن يختبئوا خلفه، لكن الكذب هو في الحب والسلام!
كان السيسي قد طلب من آبي أحمد علي، رئيس الوزراء الإثيوبي، أن يحلف ثلاث مرات على السدِّ الظريف، فكأنه يلقنه فنَّ الكذب!
twitter.com/OmarImaromar