قضايا وآراء

الإسلاميون وإضاعة الفرص التاريخية!

1300x600
سؤال دائم نردده في كل أزمة وفي كل مناسبة أليمة، بل في كثير من منتدياتنا السياسية: كيف الخروج من هذا المستنقع الذي وضعنا فيه الانقلاب وشارك فيه الجميع عن جهالة وسوء تقدير؟ كيف نستعيد قوتنا ولحمتنا الوطنية؟ كيف نقوي جدار الثقافة السياسية لدى المواطن؟ كيف نحوّل الصراع الدموي إلى نضال ومنافسة سياسية؟

أعتقد بداية أن الأمر يحتاج لمراجعة شجاعة من الجميع، خاصة في ظل المشهد المأساوي والكارثي الذي تعيشه مصر، ربما يكون أشدها قسوة أزمة المعتقلين السياسيين، حيث نودع كل يوم شهداء إلى القبور، وزهرة شباب تعيش في المنافي والمهجر وقد تقطعت بهم السبل، وقد أصابهم اليأس والإحباط بلا أمل في العودة إلى مصر.

لذلك، إنني أدعو جميع القوى السياسية (وخاصة الإسلاميين الذين أنتمى إليهم) لإجراء مراجعات حقيقية للاستفادة منها، والاعتراف بالأخطاء والتحلي بشجاعة الاعتذار عنها، وأنا واحد ممن أصابهم الانقلاب وتركوا بلادهم وديارهم.

أرى أنه من واجبي الوطني أن أنبه قومي وأهلي لمناطق الخلل من أجل إصلاحها، وتدارك الأخطاء لتصويبها، وإن لم نتمكن من تصويبها؛ فمن حق الأجيال القادمة أن تعرف الحقيقة كاملة وتقود السفينة لبر الأمان.

إنني أعتقد أنه من المهم جدا أن نعلن بشكل جلي أننا لسنا طلاب سلطة، ولا نسعى للحكم، بل نسعى ونجتهد ونبذل ونضحي من أجل مصلحة الوطن والشعب، ومستعدون لفعل أي شيء يصب في ذلك. بل مستعدون أن نتجرع "السمّ" من أجل إنقاذ بلادنا، حيث يجب أن نتعالى فوق الآلام والمرارات والجراحات، والتعاطي بواقعية مع المشهد الجديد ومعطياته.

إنني أطالب بمراجعة شفافة ونقية لكل مواقفنا السابقة، بداية من تصدر المشهد السياسي عقب الثورة، سياسة الاستحواذ والإقصاء التي اتبعها الإخوان مع انتخابات البرلمانية، وهي الكتلة الأكثر تنظيما، محتكرة الأغلبية في البرلمان، وهي ما يمثل انقلابا "على فكرة المشاركة لا المغالبة".

أيضا القرار الأكثر فداحة من قبل جماعة الإخوان المسلمين، هو خوض الانتخابات الرئاسية رغم إعلان الجماعة عدم المنافسة على منصب الرئاسة، بل كلام المهندس خيرت الشاطر كان واضحا وجليا في تلك المسألة في حواره الذي أجراه في 28 نيسان/ أبريل 2011 مع جريدة الشروق مع الزميل محمد سعد عبد الحفيظ، الذي قال فيه نصا إن "البلد واقعة جدا وأنه لا يوجد فصيل بمفرده سواء الإخوان أو الجيش أو أي فصيل آخر يمكنه بمفرده أن يشيل الشيلة وحده".. و"إننا مع الفكر الائتلافي خلال هذه المرحلة، ونريد أن نوصل رسالة للناس مفادها: لا تقلقوا ليس لأننا أكثر الناس تنظيما فسنفرض أنفسنا عليكم، ونحن نظهر حسن نوايانا معكم كي نضع أيدينا في أيدي بعض من أجل إنقاذ مصر في هذه المرحلة.

ثالثا؛ إننا لا نستطيع أن نغمض أعيننا عن سيناريو الجزائر أو غزة عندما وصل الإسلاميون للحكم بشكل سريع فانقلبت المؤسسة العسكرية على الإسلاميين، وانقلب الغرب على الشعب الغزاوي وفرض عليه الحصار بسبب وصول حماس للسلطة، وأنا في هذا المرحلة لا يمكن أن أقرأ رد فعل الغرب بشكل مضبوط، في حالة وصولي للحكم فهناك تخوف منا، فهل أنظر تحت قدمي فقط وأبحث عن مصلحة الجماعة فقط حتى أصل للحكم بكرة، أم أنظر لمصلحة البلد ككل؟ وفي النهاية، العمل السياسي ليس فيه صواب مطلق ولا خطأ مطلق إلا في حدود ضيقة.

رابعا؛ إننا أصحاب مصلحة في التعاون مع الغير في تأسيس حياة مستقرة، لأننا نخاف من أن يؤدي وجودنا إلى أن يغير الجيش مثلا موقفه، ووقتها نكون نحن السبب المباشر في قتل الحياة الديمقراطية في مصر. فنحن لا نريد ذلك بالمرة، وهذه هي الأسباب التي اتخذ الإخوان على أساسها قرار عدم خوض انتخابات الرئاسة والمنافسة على أغلبية البرلمان".

انتهى كلام المهندس خيرت الشاطر، وهو كلام للأسف الشديد مضت الجماعة عكسه تماما، واحتكر الإخوان السلطة كاملة، وكانوا السبب في انقلاب الجيش على التجربة الديمقراطية، كما ذكر المهندس خيرت الشاطر.

وهذا فضلا عن أن ممارسة الإخوان للحكم كانت فيها استعداء الكثير من الجهات والأطراف الداخلية والإقليمية والدولية (مثل التراجع عن وعود اتفاق فيرمونت.. والإعلان الدستوري وغيره)، كلها ممارسة لا تتفق مع مبدأ المشاركة والتوافق مع القوى السياسية بعد الثورة، فضلا عن عدم جاهزية الإخوان لتولي حكم البلاد ورئاسة دولة مثل مصر، بلا كوارد سياسية بالعدد الكافي في الوزارات، مما جعل وجوها كثيرة للدولة العميقة تتحكم في المشهد، وتعرقل أعمال الرئيس مرسي ولا تتعاون معه.

ويمكن أن أستعير كلمة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي السابق لحماس، في إحدى المناسبات: "ذهب الإخوان للحكم بلا أدوات، فكان تعثرهم شيئا حتميا".

أضف إلى ذلك الخطاب الإعلامي للقوى المناهضة للثورة التي شيطنت الرئيس والإخوان، ولم يقابله خطاب رشيد من الإخوان أو الإسلاميين. والحمد لله حاولت مع إخواني في حزب البناء والتنمية أن نقدم خطابا إعلاميا متوازنا رشيدا بقدر الإمكانات المتاحة، لكن الخطاب السائد كان ينمي ويغذي ظاهرة الاستقطاب والانقسام في المجتمع، التي وصلت ذروتها في 30 حزيران/ يونيو 2013.

ثم كانت الكارثة في التعامل مع الانقلاب بسلاح الاعتصامات والمظاهرات وضياع فرص التفاوض السياسي والعروض المبادرات، بداية من عرض السيسي نفسه بحضور سعد الكتاتني لبيان الانقلاب، ومشاركة الإخوان في الحكومة أو المطالبة بفض اعتصام رابعة وخروج المعتقلين .

وهنا أتذكر مقالا مهما جدا للكاتب الصحفي فهمي هويدي في مقاله بالشروق يوم 23 أيلول/ سبتمبر 2013 بعنوان: "مَنْ يتجرع السم لأجل الوطن؟"، طالب فيه الأستاذ فهمي هويدي الإخوان المسلمين وأنصارهم بتجرع السم عبر التوقف عن المظاهرات والعودة إلى بيوتهم.

وقال ضمن ذلك المقال؛ "إنني لم أفكر في ما إذا كان ما حدث أهو انقلاب أم ثورة؟ ولست مشغولا بمن المخطئ ومن المصيب؟ لكنني أزعم أن الوطن والأمة معا بحاجة إلى طرف شجاع يتقدم لكي يطفئ الحريق، وينقذ مصر من الرياح المسمومة التي هبت عليها، وأطلقت فيها وحوش الغضب والثأر والانتقام ودعوات الاقتلاع والإبادة، وهو ما يدعوني إلى طرح السؤال التالي: من يتجرع السم ليسدي للوطن تلك الخدمة في اللحظة الراهنة؟".

ثم أضاف هويدي في مقاله؛ "إنني لا أتصور عقلا أن أطالب السلطة القائمة بتلك الخطوة، ليس فقط لأنها معتمدة على الجيش والشرطة، ولكن أيضا نظرا للتأييد الشعبي الواسع لها، لذلك فإنني أتوجه بالنداء إلى الإخوان المسلمين وحلفائهم، وتلك مغامرة شخصية من جانبي لم أستشر فيها أحدا ولا أعبر فيها عن أحد. في هذا الصدد فإنني أدرك فداحة الثمن الذي دفعه الإخوان، وقدر الظلم الذى وقع عليهم، كما أنني أقدر مشاعر قواعدهم، إلا أنني أثق في حكمتهم ووطنية قياداتهم".

لم يسمع أحد كلام فهي هويدي، بل اتهمه البعض بالاعتراف بالانقلاب وترسيخه، ولم يصغ أحد لكثير من المبادرات والنداءات الصادقة حرصا على الوطن وحقنا للدماء.

وأذكر أنه في أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وقد ازدادت رقعة الدماء وانتقلت الكارثة إلى سيناء، فأصدرت بيانا شخصيا بعيدا عن الحزب نشرته الصحف وتناولته الجزيرة مباشر مصر في نشراتها قلت فيه: "أدعو إلى هدنة لمدة أسبوع لتهيئة الأجواء لإقامة حوار مثمر بين جميع الأطراف، ومراجعة الخطاب الإعلامي والسياسي ضرورة لنشر التوافق والتسامح".

أدنت فيه مقتل الجنود بالجيش في شمال سيناء وثلاثة من ضباط الشرطة يومها، مؤكدا أن مقتل الجنود والضباط فاجعة تعمق حزن الشعب المصري الذي أصبح يعيش الآن في مستنقع الإحباط واليأس بعد استرخاص الدم المصري.

وأوضحت أن الوطن تسيطر عليه أجواء الانتقام ويسوده الانقسام والاستقطاب، مما يستوجب من الجميع خلع رداء الحزبية والانتماءات السياسية والجلوس على مائدة الحوار، بعد أن أصبحت دماء المصريين تسيل في كل مكان، وهي دماء غالية عزيزة أغلى عند الله من الكعبة المشرفة، فكيف لا تكون أغلى من السلطة والرئاسة والوزارة؟

ودعوت الجميع؛ سلطة وحكاما ومحكومين وأحزابا وجماعات ونخبة ومثقفين، إلى مراجعة أنفسهم وخطاباتهم، فلسنا ملائكة فوق الخطأ، والخليفة العادل عمر يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم".

علينا أن نؤمن بالحوار والحلول السياسية وسيلة لحل المشكلات والأزمات، مهما عظمت، ونوقن أنه بالحوار والتعايش والتوافق تزدهر الأوطان وبالشقاق والعنف والصدام تنهار الأوطان .

وقلت: برؤيتي الشخصية أعتقد أن المشكلة أن صدور المصريين ضاقت، فما عادت تسمع ولا ترى الرأي الآخر، مع أننا نعيش في وادي النيل المتسامح الذي تتعايش فيه الأفكار وتتنوع فيه الثقافات على مر التاريخ.

ولذلك، أطالب السلطات القائمة وجميع القوى السياسية بالعمل على حقن الدماء والسعي لتحقيق الأمن في مصر، الذي هو فريضة قرآنية بنص القرآن: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"؛ فتحقيق الأمن واجب شرعي لا خلاف فيه.

وأقترح هدنة بين جميع الأطراف المتنازعة لمدة أسبوع واحد، تتوقف فيها الملاحقات الأمنية والاعتقالات من جانب السلطة، ويجمد التحالف الوطني لدعم الشرعية خلالها المظاهرات طوال هذا الأسبوع؛ أملا في تهدئة المناخ والأجواء لإجراء حوار مثمر بين الجميع.. انتهى البيان.

لكن الغريب أن الكثير من الإسلاميين هاجموني واتهموني بأني أريد النجاة لنفسي.

هكذا منعنا أنفسنا والآخرين من إطفاء نار الصدام ووقف نزيف الدماء بعواطف جياشة دون عقل أو دراية.. فهل نعترف اليوم بأخطائنا ونبدأ في طريق الإصلاح والعودة من جديد؟ هذا ما نحاول طرحه مستقبلا إن كان في العمر بقية.. "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا".