من أهم مداخل الفهم في تأسيس مفهوم للمواطنة؛ هو النظر لمفهوم
المواطنة في علاقته بالدولة والمجتمع، والنظر لهذا المفهوم مرتبطا بمعنى
الأمة.. الأمة في المواطنة والمواطنة في الأمة؛ بحيث يرتبط ذلك لزوما بإشكال لا يمكن إغفاله أو القفز عليه، ولكن وجب التوقف عنده بالفهم العميق والدقيق، بحيث يحرك فاعليات مفهوم الأمة في التماسك والتكامل، ويؤسس لفاعليات مفهوم المواطنة من خلال تصور العلاقات بين وحدات الانتماء المختلفة ومناهج النظر لها وحولها.
ولعلنا لا نجد في هذا المقام أدق رؤية وأعمق نظرا لوضع هذا الإشكال في مقامه فهما وبصرا، رؤية وممارسة، مما عبر عنه الحكيم البشري (المستشار طارق البشري)؛ فهو إن جعل من الأمة وحدة تحليله التأسيسية، ومن الجماعة الوطنية وحدة تحليله الواقعية، فإنما أراد أن يبحث عن معنى الأمة في الجماعة الوطنية، ومعنى المواطنة فيهما ومقام الفاعلية والتفعيل لها جميعا من دون تناقض أو استبعاد.
وهو عمل لا يفقد الأمة كوحدة تحليل مرجعية، ولكنه في ذات الوقت لا يفقد الواقع تصفحا وفهما وتفهما، ولا يتركه نهبا لوحدات تحليل تضر بالظاهرة وإمكانات فهمها والتعامل معها وتقويمها. وهو من أجل هذا يذكر أن علم
السياسة وعلم الاجتماع لا يكتفي أحدهما بالنظر الذي يركز على وحدة الانتماء العامة أو وحدة الانتماء الأساسية التي تقوم عليها الدولة، ويتعلق بها نظام الحكم أو السلطات الثلاث. لا يكتفي بذلك لفهم أوضاع نظم الحكم وطبيعتها، وهو ينفتح على العديد من الهيئات والجماعات والتكوينات، ولا يرى المواطنين محض أفراد تجمعهم الأحزاب ومؤسسات الدولة فقط.
ذلك أن علوم السياسة والمجتمع لا تكتفي برسم الأطر وتحديد القنوات، إنما يتسع نظرها وبحثها ويصل إلى الجماعات الفرعية التي يتجمع فيها الأفراد، وكذلك إلى المؤسسات والأبنية التي تقوم على هذه الجماعات. إن أولى الخطوات في طريق الخطأ تتمثل في نظرنا إلى المواطنين كأفراد، وفي عدم إدراكنا ما يجمعهم من الجماعات الفرعية ووحدات الانتماء الفرعية المتداخلة في
المجتمع، وما تشخص به هذه الجماعات والوحدات من هيئات ومؤسسات.
إن المجتمع يتكون من وحدات انتماء لا حصر لها، وهي تتنوع من حيث معيار التصنيف: فيكون أساسها الدين أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو الملة أو المشرب الثقافي أو الطائفية، أو يكون أساسها اللغة أو اللهجة، أو يكون أساسا نوع التعليم أو المهنة أو الحرفة، أو يكون أساسها وحدة العمل الوظيفي لجيش أو جامعة أو شركة كبرى أو وسط عمل معين، أو يكون أساسها الإقليم أو الحي أو القرية أو الحارة، أو يكون أساسها القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، أو غير ذلك مما لا يقع تحت حصر من حيث العدد أو من حيث النوع أو من حيث معيار التصنيف؟
وبسبب تنوع معيار التصنيف، فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة وليست بالضرورة وحدات مانعة، والفرد الذي ينتمي لإحداها قد يمتنع عليه الانتماء لغيرها من جنسها وبذات معيار التصنيف، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لغيرها وفقا لمعيار آخر للتصنيف. فالمنتمي لأهل السُّنة يمتنع عليه الانتماء للشيعة لوحدة معيار التصنيف الفارق بين الوحدتين، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لأهل الطريق أو لقبيلة أو لإقليم أو غير ذلك، لاختلاف معيار التصنيف.
ومن هنا، فالوحدات متداخلة ومتشابكة، ودوائرها تشكل حلقات ليست منفصلة. وبسبب تعدد هذه الوحدات، وتنوع معايير التصنيف لها فهي لا تقف على قدم المساواة في علاقاتها بعضها البعض، ولا تختلف اختلاف تعدد وتنوع فقط، إنما أيضا اختلاف عموم وخصوص، أو اختلاف أجناس وأنواع من كل جنس منها أو اختلاف أصل وفروع. وهكذا نرى بين وحدة الدين وحدة المذاهب الدينية، ووحدة السُّنة ووحدة مذاهبها، ووحدة الصوفية وأنواع الطرق، وهكذا نرى بين الوحدات الصلات الإقليمية أو الصلات المهنية أو روابط الدم وغير ذلك.
من هذه الوحدات تظهر في كل مرحلة تاريخية وحدة الانتماء العامة التي تعتبر الحلقة الكبرى والأساسية التي يتشكل المجتمع وفقا لما تفيده، والتي تعتبر الحلقة الحاكمة لغيرها أو الوحدة الحاكمة لغيرها، وما بعدها تمكن الإشارة إليه بحسبانه وحدات الانتماء الفرعية. وتتبلور وحدة الانتماء العامة وفقا لعاملين أساسيين: الأوضاع التاريخية والاجتماعية ترشحها لأن تقوم بالوظيفة الأساسية، وأن تستجيب للتحديات الأساسية التي تواجه الجماعة بوحداتها كافة في مرحلة تاريخية معينة.
ومن الجلي أن وحدة الانتماء العامة يكون لها قدر من الثبات النسبي، ولكنها تقبل التأثر والتأثير من داخلها بواسطة الوحدات النوعية، ومن خارجها بواسطة الأوضاع العامة المحيطة. كذلك من الجلي أن كل مجتمع حي يتضمن صيغة ما من صيغ الوحدة مع التعدد، أي وحدة الانتماء العامة التي تكون لها الغلبة في المجتمع وفي وعي الناس في هذا المجتمع، وتستجيب لما يلاقي من تحديات، وتحقق الحد الأقصى من الصوالح، وترعى القاسم المشترك الأعظم منها بالنسبة للجماعات المختلفة في المجتمع، التي تتعدد بتعدد الجماعات وبتعدد معايير التصنيف القائمة في المجتمع؛ وهي بالضرورة متداخلة ومتشابكة، وهي تلتف حول الوحدة العامة بقدر إدراكها أن هذه الوحدة العامة تكفل لها الحد الأدنى من تحقيق الوجود ومن البقاء ومن المصالح المرجوة. وبكفالة هذا الحد الأدنى تقوم علاقات الدعم المتبادلة والتغذية المتبادلة بين العام والفرعي، فإذا لم نكفل هذا الحد الأدنى قام نوع من الصراع ينحسم بالغلبة لصالح الوحدة العامة ضد أي من الوحدات الفرعية، أو لصالح الوحدات الفرعية إذا تكاثرت واتحدت ضد ما تعتبر وحدة عامة في مرحلة معينة..
وعلى حد تعبير الحكيم البشري ومنهج النظر الذي اعتمده في هذا الشأن، يقول: أتصور أن حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع ونوع هذا التحدي، إنما يؤثر في وجود الانتماء وفي غلبة وحدات بعضها على بعض في فترات تاريخية معينة، يحدث ذلك بالسلب أو بالإيجاب. وقد حدث في مثل بلادنا أن تناثرت أشلاء بسبب اقتسام القوى الغربية لها واحتلالها إياها وسقوط الخلافة كمشخص لوحدة الانتماء العامة بينها جميعا. وفي مثل هذه الأوضاع فإن القطر المجتزأ ينشئ من داخله ويهيئ من أشلائه التشكيلات التي يستطيع بها أن يسيطر على وضعه، إنه عضو حي، وحياته تكسبه هذه القدرة على التهيؤ والتشكيل، ومن ثم تنشأ له ذاتية خاصة على التعامل بمحيطه المضروب عليه كوحدة سياسية اجتماعية وكوحدة انتماء عام. وهذه الوحدة المتخلقة تنشئ لذاتها الأهداف والرؤى والتصورات التي تستطيع أن تواجه أوضاع الحياة السياسية والاجتماعية. وهي فيما تصنع تعيد ترتيب وحدات الانتماء الأخرى على أساس أن تلحق هذه الوحدات بها كوحدة حاكمة، وهذا ما جرى في مصر مثلا منذ 1919 عندما علت الجامعة المصرية على غيرها وألحقت بها غيرها.
ومن جهة أخرى، فإن الخطر الخارجي تحشد له قوى المواجهة وتنشط معه وحدات الانتماء القادرة على مواجهته بحجم الشمول والعموم المطلوب. وفي الأزمات الداخلية مثلا تحشد القوى القادرة على التصدي لهذه الأزمات بما هو خليق بمعالجة المخاطر الحادثة. وفي هذا الحشد تبدو بعض الوحدات بوصفها الخليقة بقيادة غيرها في ظروف الأزمات الراهنة، لما تتصف به من عموم وشمول يتناسب حجمه مع خطورة المواجهة القائمة.
كما اتحد المسلمون ضد الصليبين، أو ما تتصف به هذه الوحدة نوعيّا من مواصفات تكفل لها كفاءة خاصة في مواجهة نوع الخطر الحاصل، كهيمنة المؤسسة العسكرية على أوضاع المجتمع في ظروف مخاطر الحرب؛ مثلما حدث في بلادنا بعد ظهور الخطر الصهيوني وإنشاء دولة إسرائيل. وكما يشير البشري، فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعا، لأن وجود الوحدات الفرعية يغذي الوحدات العامة ويتغذى منها. ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصا من الوحدات الأعم. إن الإنسان مدني بطبعه، ولا يوجد فرد بغير جماعة؛ وإن وجوده بغير جماعة هو أقرب إلى التصورات الصورية الافتراضية..
إن الفرد دائما هو داخل في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية، والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها، إنه درس الاجتماع الذي يندرج فهم المواطنة فيه؛ ودرس وحدات الانتماء العامة والفرعية الذي لا يتعارض مع مفهوم المواطنة وأصول الجامعية فيه.
twitter.com/Saif_abdelfatah