ظلّ أمر الفيلسوف اليوناني سقراط يحيرني منذ أن كنّا طلبة في الجامعة.. لماذا رفض أبو الفلاسفة عرض طلابه تهريبه من السجن لإنقاذ حياته بعد أن حكمت عليه المحكمة بالإعدام عن طريق تجرّع السم؟
قال أرسطو المعلم الأول وتلميذ أفلاطون تلميذ سقراط الحكيم ومدوّن حواراته وكاتب سيرته.. قال أرسطو لو كنت مكان سقراط لاخترت إنقاذ حياتي وفررت من السجن وكذلك فعل سيدنا موسى عليه السلام عندما انتهى إلى سمعه أنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فغادر المدينة لسان حاله "ففررت منكم لما خفتكم".
وقد كانت حجة سقراط في تسليمه لعدالة الأرض وهو الذي حوكم بتحريض الشباب على رفض الأوضاع لبطلان سياسات البشر وافتقارها إلى مقتضيات الفضيلة والعدالة، كانت حجته احترام القانون لأنه في التمرد على القانون وخرقه ضرب لأنهم قاعدة في بناء المجتمع وهي تأسيسه على التعاقد والتعايش والحرية..
وحينما سلم الغنوشي رئيس مجلس نواب الشعب لمن ائتمروا به من "زملائه" وتواطأوا على نقض ما أبرم بانتخابه ومساعديه واتهموه بشتى التهم واختار أن يعاملهم معاملة القدوة العليا حينما توجه الى الله بقوله " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" وحينما أيقن أنّ الإمتثال لمقتضيات القانون ولو توسلت بها الأقلية وتحالفت لأجل ذلك كتل ما كانت لتجتمع لولا أنها أضاعت بوصلة الوطن وفقدت معيار العقل وميزان العمل حينما أيقن ذلك وكان يسعه المغالبة والمناورة قال لطالبي رأسه "أنا أيضا من موقعي أطلب تجديد الثقة فلم ٱت على ظهر دبابة ولن أبق في موقعي إلا بإرادة الأغلبية " وقبل الغنوشي (ليس للمرة الأولى) التحدي.. فكان سقراطيا حتى بذل النفس بدل ابتذال عزتها وديمقراطيا حد فضح التواطؤ وكشف الخيانة الموصوفة.
في طيات المؤامرة (حساب البشر) وفي علم الله الأزلي (حساب الله) وفي يوم عرفة وهو صائم مبتهل إلى الله اختار الغنوشي أن يكون ديمقراطيا حد القبول برد الأمانة ومبدئيا حد اختيار الشهادة..
خاطرة ثانية مرت بخاطري وأنا أرى الرجل يتقدم نحو الإختبار الأخطر (سياسيا) في مسيرته الطويلة كمن يصارع على حافة الهاوية وسيوف القوم فوق رأسه والعالم يشهد نجاته أو مصرعه هي لحظة تقدم الشهيد "صدام حسين" يوم عيد الإضحى والمصحف (كتاب القرآن) بيمينه إلى حبل المشنقة، وأتساءل هل أختار الغنوشي الإستشهاد واختار توقيت شهادته الرمزية وقد أرادوا قتله ماديا ومعنويا ودبروا ذلك حتى قالت النائبة سامية عبو "أحنا عملنا حساب وربي عمل حساب"، ولله الأمر من قبل ومن بعد..
في طيات المؤامرة (حساب البشر) وفي علم الله الأزلي (حساب الله) وفي يوم عرفة وهو صائم مبتهل إلى الله اختار الغنوشي أن يكون ديمقراطيا حد القبول برد الأمانة ومبدئيا حد اختيار الشهادة..
وهو في ذلك المعترك كان يعلم أنّه ليس لوحده المستهدف فهو يقف على أمانة المؤسسة التشريعيّة وحماية ارادة الشعب وحفظ نصوص الدستور، وهو أيضا يعلم أنّ حجم التجييش والمؤامرة كان يبغي اسقاط التجربة الديمقراطيّة الوليدة والناشئة في تونس وما لها من جاذبية في كامل المنطقة وما لها من إشعاع إقليمي ودولي فارق.
كانت كل الصفحات الأولى للصحف يوم الخميس 30 تموز (يوليو) 2020 تعجّ بصوره متنبئة بسقوط الزعيم، وكانت وسائل الإعلام المحلية وتلفزيونات العالم تستعد لنقل لحظة السقوط في مشهد مليء بالاستباق الكاذب والمغشوش وشعارات الحقد والفتنة...
قيّض له الله شرفاء ورجالا من خيرة ما في مجلس نواب الشعب بجرأة وشجاعة نادرتين، فالتحريض كان عنيفا وبلغ درجة التهديد والوعيد، ناهيك عن الإغراءات وصنوف الترغيب.. فالمعركة كبيرة ومراميها على غاية من الخطورة احتشدت فيها قوى من الأشرار للإضرار بموجة عربية إسلامية تائقة إلى الانعتاق من مشاهد الضيق والتضييق إلى آفاق الحريّة والديمقراطية..
بين لحظتي سقراط وصدام حسين وفي نفس المنزلة وبنفس الصدق والتسليم وقف راشد الخريجي الغنوشي ليُقيم فرزا جديدا بين أنصار الديمقراطيّة وأدعيائها وأعدائها وليدشن موجة جديدة في مسار الربيع العربي ويهزم الثورة المضادة قائلا: قول الحق جل وعلا "حسبنا الله ونعم الوكيل".