في التاسع من أغسطس تحل ذكرى رحيل
محمود درويش. لعله أحد المبدعين القليلين الذين لا يحتاجون للتعريف قبل الكتابة عن إبداعهم، فغالبا لن أجد الكثير لتقديمه، مما يجهله القارئ العربي عن درويش؛ رمز
الشعر الفلسطيني، وأحد أيقونات الثقافة العربية المعاصرة.
لذلك، أميل إلى التركيز على ملمح درويشي لم ينل الحفاوة التي يستحقها، في تقديري. وأرى هذا الملمح رافدا خاصا لتطور تجربة درويش ودوام تألقها، بقدر ما أراه عزيزا نادرا في تجارب شعراء عرب كثيرين ممن كانوا رموزا لحداثة الشعر العربي المعاصر.
استطاع درويش أن يصنع هزيمته الخاصة. هذا هو الملمح الذي قصدته، لكن ذلك يحتاج إلى مزيد من التفصيل. وأول ما أحب التنويه إليه أن هزيمته المقصودة هنا هزيمة شعرية تتجلى في عالم الصور والمجاز والإيحاء، على نقيض من ألقه الشخصي والشعري المتنامي بحكم انتشار شعره وتعبيره عن صوت المقاومة الفلسطينية ومشاركته في الساحة السياسية. وهنا تبدو المفارقة.
فدرويش الذي ظل يتلقى كثيرا من التكريم والحفاوة أينما حل في الدول العربية، وحتى الأجنبية، بدأ يتعاطى في شعره مع نوع من الهزيمة؛ من الاعتراف بالهشاشة والتغني بها والبحث عن رموزها في تاريخنا. وحتى أستطيع التركيز على تلك الفكرة، سأختار ديوانه البديع "أحد عشر كوكبا"، الصادر سنة 1992، لأجلو الفكرة من خلال بعض قصائده.
نكاد كلنا نحفظ قصيدة درويش القديمة "سجّل أنا عربي"، التي أسّستْ لمجده الشعري وألهبت مشاعر جمهوره. تجبهنا روح درويش في تلك القصيدة، فهو عامل المحاجر الفقير، ذو الأطفال الثمانية، الذين ينتظرون شقيقا تاسعا. وبعزوةٍ هادرة، يفتخر بجذوره وأجداده الفلاحين الفقراء.. حتى ينتهي بتهديد المحتل بأنه إذا جاع يأكل لحم مغتصبه.
في سياقها التاريخي بملابساته السياسية المعروفة، أشعلت القصيدة قلوب العرب منذ ألقاها سنة 1963. لكن ماذا عن درويش في أوائل التسعينيات، حين استشعر قلبه المرهف محادثات أوسلو و"جزرة" سلامها الوهمي، التي لهثت وراءها السلطة الفلسطينية، ولا تزال.
عركتْ الحياةُ درويشا فغدا أقرب إلى تفهم تاريخية الهزيمة فينا جميعا. فنحن شعوب ذاقت القهر قرونا، حتى انطبعت بطابعه. بالتأكيد لا أقصد ميل درويش إلى الانهزام سياسيا، فالرجل ذو موقف سياسي واضح، لا مجال الآن لمناقشته، لكنّ المقصود هنا هو الهزيمة كمعطى شعري؛ كفكرة يستطيع الشاعر تأملها ومحاورتها واستشفاف ما هو آت منها. وهذا ما لا يستطيع درويش "السياسي" البوحَ به أو التصالح معه.
بعد تهديدات هادرة بأكل لحم مغتصبه، ينقّب درويش في تاريخ هزائم المسلمين في الأندلس، كأنه يسخر من تغنّي ثقافتنا بالأمجاد القديمة، وذلك بخلق حالة شعرية تتلذّذ بالهزيمة في ذاتها، بل توغل في تمثّل ذلك الانهيار، كأن الذات الشعرية ترى فيه سياقا مضادا لسياق واقعي زائف يبحث عن الانتصار في الماضي.
ترحّب الذات الشاعرة بالغزاة، الذين تسمّيهم "الفاتحين"، أي تتمحور تلك الذات في الطرف المهزوم، بينما تردد مقولات الطرف المنتصر عن نفسه باعتباره فاتحا عظيما، تؤثره الذات بمفردات معيشتها. يقول درويش في قصيدة "في المساء الأخير على هذه الأرض": "فادخلوا أيها الفاتحون منازلنا واشربوا خمرنا.. شاينا أخضر فاشربوه، شايُنا أَخَضْر ساخِنٌ فاشْرَبوهُ، وَفُسْتُقنُا طازَجٌ فَكُلوه، والأسرَّةُ خضراءُ من خَشَب الأرْزِ، فَاسْتَسْلِمُوا للنُّعَاسْ بَعْدَ هذا الْحِصارِ الطِّويلِ، ونَامُوا على ريشِ أَحْلامِنَا الملاءَات جاهزةٌ، والعُطورُ على الْباب جاهزةٌ، والمرايا كَثيرةْ. فادْخُلوها لنَخْرُجَ مِنْها تَماماً".
تحتاج لغة درويش إلى كثير من التحليل النقدي، الذي لا يتسع له هذا المقام، لكن لن يفوتنا تأمّل أحد أسرار درويش في تلك المرحلة من شعره، مما لا نجده في قصائد الستينيات الباكرة وربما بعض قصائد السبعينيات أيضا، أعني بذلك قدرته على اللعب بالإيحاءات الشعرية لعبا مبهرا حقا. فعلى مستوى مباشر، يعبر عن التلذذ بالهزيمة بتعديد الدعوات إلى الاستمتاع بأسباب معيشة المهزومين من شاي وفستق وأثاث، ثم يتصاعد مستوى التكثيف حتى يدعوهم إلى النوم على "ريش الأحلام"، ثم يبلغ ذروة مجازية بفكرة دخول المرايا حتى يخرج المهزومون منها، كأنّ أرواح الناس تبقى في مراياهم وإن غابوا عنها، حتى يدخلها غيرهم فتصبح مأهولة بالداخلين الجدد. ويا لها من فكرة!
في قصيدة "كيف أكتب فوق السحاب" يتعمّق التغني بالهزيمة: "فغني لتبني الحساسين من أضلعي دَرَجاً للسماء القريبة... كم أحبكِ أنتِ التي قطَّعتنِي وتراً وتراً في الطريق إلى ليلها الحار". نلاحظ اللعب بالإيحاء والقدرة على تضفير العلاقات المجازية الغريبة بما يضعها في نسق واحد ذي دلالة واحدة قوية، فالحساسين تبني من ضلوعه درجا، مثلما تقطّعه حبيبته أوتارا في الطريق إلى ليلها الحار.
ويستدعي أحد أهم شهداء الشعر الحديث "جارثيا لوركا"، فما دمنا تحت وطأة الهزائم الكيرى، فلا بد من استدعاء مظلومية لوركا. يقول في قصيدة "لي خلف السماء سماء": "واقتلوني على عجل تحت زيتونتي مع لوركا". ويمضي في اجتراح المجازات المدهشة. يقول في قصيدة "في الرحيل الكبير أحبكِ أكثر": "خفَّ النخيل، خف وزن التلال، وخفَّت شوارعنا في الأصيلْ.. خفت الكلمات، والحكاياتُ خفَّتْ على درَجِ الليل.. لكنَّ قلبي ثقيلْ". تكاد الذات الشاعرة تطفو من ثقل هزيمتها. لا شيء من هذا العالم موجود. كل شيء يخف ويتلاشى، بدءا من النخيل والشوارع وغيرها من المكونات الملموسة، وانتهاء بالكلمات والحكايات.
في قصيدة "مَن أنا بعد ليل الغريبة"، يجيد درويش هذا اللعب بالمجاز الصعب دون غموضٍ قاتل للمعنى. ثمة إيحاء نفسي قوي يجمع غموض النهار والحليب على شفة التين ووضوح الزمان الذي يغدو كثيفا: "خائفاً من غُموض النَّهَارِ عَلَى مَرْمَرِ الدّارِ، مِنْ عتْمةِ الشَّمْسِ في الْوَرْدِ، مِنْ ماء نافُورَتِي خائفاً من حليبٍ على شَفَة التّين، منْ لُغَتِي خائِفاً، من هواء يمشَّطُ صفْصافةً خائفاً، خائفاً منْ وُضوح الزمان الْكثيف".
وباقتدار، يلتقط درويش لحظة إنسانية بسيطة، متكررة، ليصنع منها عالما شعريا. إنها لحظة الخزي التي اختبرناها جميعا: "أنا زَفْرَةُ الْعَرَبيِّ الأخيرَةْ. لا أُطِلُّ على الآسِ فَوْقَ سُطوحِ الْبُيوتِ، ولا
أًتَطلَّعُ حَوْلي لِئَلاَ يراني هُنا أحَدٌ كانَ يَعْرِفُني، كانَ يَعْرِفُ أنّي صَقَلْتُ رُخامَ الْكلام لتَعْبُرَ إِمْرأَتي
بُقَعَ الضَّوءِ حافَية..". كلنا مررنا يوما من مكان دون أن نتطلع حولنا لئلا يرانا أحد يعرفنا، لكنّ درويش يُثقِل اللحظة بحمولة شعرية ساحرة؛ بتلك الصورة المركبة المدهشة لصقل رخام الكلام حتى تعبر منه امرأة جميلة. حتى في لحظة الخزي والهزيمة، يجد درويش معنى شعريا ما.
لن يتسع المقام لفحص تجارب شعراء كثيرين وقفوا عند نقطة ما، عاجزين عن التطور. ثبتوا عند التهديد بأكل لحم المغتصب، فلم يحلموا بما حلم به درويش من فتنة شعرية، وجدت في هزيمتنا الكبرى طاقة شعرية قادرة على ابتكار صور رائعة من قلب الهزيمة.