لهذه الأمة روحها العامة، وضميرها الجمعي العجيب. لا أعني الأمة العربية وحسب، بل الأمة الإسلامية أيضا. ولا يتعلق الأمر بقضية فلسطين التي تنطوي على أبعاد دينية وحسب، بل على كثير من القضايا والتحديات الأخرى التي واجهتها منذ زمن بعيد، ولا يغيّر في هذا البعد ما تعيشه من خلافات أحيانا حول ملف هنا أو هناك من تلك الملفات التي فرضتها منظومة الدولة القُطرية التي تكرّست خلال حقبة ما بعد الاستعمار.
في العشرية الأخيرة؛ وتحديدا في حقبة "الثورة المضادة"؛ تابعنا وما زلنا نتابع قدرا مهولا من العبث بهذه الحالة الوحدوية؛ إن جاز التعبير. ومن يديرون هذا العبث هم أنفسهم من تولّوا وما زالوا يتولّون كبر الثورة المضادة ودعمها وتمويلها بكل ما يملكون من أدوات؛ مالية وسياسية وإعلامية.
التيار الوحدوي هو الذي انتصر، بينما فشلت "الثورة المضادة" في تحقيق ما أرادته؛ أعني تعميق الشرخ بين أبناء الأمة
والحال أن من الخطأ الحديث عن مواقع التواصل كأهم أداة من أدوات هذه الحملة، ذلك أن الفضاء المفتوح كان سابقا على زمن مواقع التواصل، كما أن هذه الأخيرة، وإن ساهمت في ذلك على نحو ما؛ عبر "جيوش إلكترونية"، وأسماء وأدوات توظّفها، فإن الرد عليها كان قويا أيضا من التيار الوحدوي.
وإذا جئنا نقيّم نتائج المعركة على هذا الصعيد، فسنجد أن التيار الوحدوي هو الذي انتصر، بينما فشلت "الثورة المضادة" في تحقيق ما أرادته؛ أعني تعميق الشرخ بين أبناء الأمة.
على أن الفشل الذي منيت به الثورة المضادة في هذه المعركة لا يتعلق بقدراتها الإعلامية أو المالية أو السياسية، مقابل القدرات التي يملكها التيار الوحدوي، لأن ميزان القوى على هذا الصعيد لا يستحق الجدل، فهو يميل بالكامل لصالح الثورة المضادة التي تملك الكثير من المال، بجانب السطوة السياسية والدعم الخارجي، بل يتعلق بجملة من العوامل الأخرى التي جعلت فشلها محتوما في المعركة.
لعل أول أسباب الفشل، بل أهم الأسباب في واقع الحال، إنما يتعلق بوجود ضمير جمعي لهذه الأمة، ونماذج لا تحصى في النزاهة والبطولة والصدق والشجاعة يتم القياس عليها دائما؛ ما جعل هذا الضمير عصيّا على التشويه؛ دائما وأبدا، حتى حين كانت الأنظمة تحتكر وسائل الإعلام، ولم تكن هناك فضائيات ولا مواقع تواصل.
أما السبب الآخر الذي يمكن الحديث عنه هنا، فيتعلق بسياسات من يديرون تلك المعركة، ذلك أن على من يريد تعميق الروح الوطنية القُطرية، مقابل الروح الوحدوية، أو الروح القومية والإسلامية، أن يقدم نموذجه القادر على استقطاب الناس داخل بلده. أما حين يكون النموذج الذي يقدمه هو نموذج "السيد صاحب المزرعة والعبيد"، أو نموذج القمع واستهداف الحريات والأحرار، بجانب فشل مزمن في السياسة الداخلية والخارجية، فإن خطابه لن يحقق أي نتيجة تُذكر، مع أن تحقيق بعض النجاح، لن يفضي إلى تجريد الجماهير من روحها الوحدوية أيضا.
الرد على مشروع "الثورة المضادة"، لتفريق شعوبنا من أجل تحقيق ما يريدون هو تعميق الروح الوحدوية، والخطاب الوحدوي
خذوا مثالا على ذلك، تلك الحملة الرهيبة لشيطنة الفلسطيني، وحذف قضيته من قائمة الاهتمامات بين جماهير الأمة، والتي استخدمت فيها كل الأدوات التي تملكها الثورة المضادة.. هل حققت أي نجاح يُذكر؟ أبدا، بل لقد ارتدت على أصحابها على نحو رهيب، حيث أصبحوا في المعسكر المقابل لجماهير الأمة.
هنا تبرز مشكلة تتعلق بمن ينتمون إلى تيار الغالبية الوحدوي، وهي الأهم بالنسبة إلينا هنا، ذلك أن بعض المخلصين، ما زالوا يتورّطون في خطاب يستفز من يتفقون معهم، ونعني هنا الخطاب العنصري الذي يتحدث عن شعب بعينه بوصفه يفعل كذا وكذا، أو شعوب منطقة معينة، كأنّ هناك جينات تدفعهم إلى فعل كذا وكذا، فضلا عن روح تحميل الجمائل و"المعايرة" إن جاز التعبير، كأن يقول الفلسطيني أو المصري للخليجي (نحن علّمناكم، وكنتم كذا وكذا)، أو يقول الخليجي للفلسطيني أو المصري (نحن أطعمناكم، وكنتم جوعى أو دعمناكم)، وما شابه من خطاب لا يليق بين أبناء الأمة الواحدة، فضلا عن سطحيته في كثير من الأحيان، فالمصري والفلسطيني لم يذهبوا إلى الخليج إلا بحثا عن رزقهم، وقاموا بواجبهم، وأخذوا حقهم، والخليجي لم يتعاقد مع الآخرين لأجل التصدق عليهم، بل للاستفادة من خدماتهم، ما يعني أننا إزاء علاقة تبادلية بين طرفين، وأخذ كل منهما حقه، فكيف وقد كانت بينهم علاقات ودية جميلة، لا تغيّر في حقيقتها بعض الإشكالات التي تحدث حتى بين أبناء الأسرة الواحدة، فضلا عن البلد الواحد.
من هنا، فإن الرد على مشروع "الثورة المضادة"، لتفريق شعوبنا من أجل تحقيق ما يريدون هو تعميق الروح الوحدوية، والخطاب الوحدوي، والبعد عن كل ما يفرّق، لا سيما كل ما يقترب من الخطاب العنصري، فهذه الأمة تملك من مقومات الوحدة، ما لا تملكه أي أمة أخرى، وهذا تحديدا هو سر الهجمات التي تعرّضت لها في السابق، وستبقى تتعرض لها من أجل الحيلولة دون أي شكل من أشكال الوحدة التي ستمنحها مكانا كبيرا تحت الشمس؛ يهدد مصالح القوى الكبرى، فضلا عن الكيان الصهيوني، وسائر الطغاة الذين لا يريدون سوى تعبيد الناس لأهوائهم، من دون اعتبار لأي قيمة أخلاقية.
مغالطات متعمدة.. التطبيع التركي القطري والتطبيع الإماراتي
اتفاق الوهم الإماراتي.. والوكيل الحصري للإمبريالية!