لم يكن القرنان الخامس عشر والسادس عشر مليئين بالتحولات على صعيد الفلسفة السياسية والدينية في أوروبا، بل شهد هذان القرنان بداية القطيعة المعرفية مع المفاهيم العلمية التي حكمت القرون الوسطى.
أدى انهيار الإمبراطورية الرومانية عام 1453 إلى هروب رجال علم نحو الغرب الأوروبي، حيث وجدوا في الجامعات والمناخ الفكري السائد ما ساعدهم على طرح أفكارهم العلمية، في وقت بدا الاهتمام فيه يتزايد بكتب العلماء العرب أمثال الرازي وابن الهيثم وابن سينا.
وفي هذا يقول لورنس برينسيبيه: "وجدت الشهية الفكرية لأوروبا التي أفاقت من سباتها، وليمة دسمة تتغذى عليها في العالم الإسلامي، فحينما بدأت أوروبا المسيحية تتحرك نحو حدود الإسلام في إسبانيا وصقلية وبلاد الشام، صادفتها كنوز المعرفة العربية، حيث تفوقت دار الإسلام على الغرب اللاتيني في علوم الفلك والفيزياء والطب والكيمياء والرياضيات والهندسة.
وقد كان من أهم النتائج المترتبة على انتشار العلوم الطبيعية آنذاك، أن اضطر كثير من الفلاسفة إلى هجران الاهتمام باللاهوت وقضاياه الميتافيزيقية والاهتمام بالعلوم، وبذلك حدث انتقال في الإشكالية الحضارية الكبرى، من فلسفة اللاهوت إلى فلسفة العلم، وبدا السؤال المحوري، كيف يمكن فهم الطبيعة والسيطرة عليها؟
كانت القوانين العلمية في العصور الوسطى قوانين عضوانية، أي أن داخل كل جسم قوة تدفعه للتحرك نحو مكانه الصحيح، وقد ميزوا بين الأجسام التي تمتلك روحا وتلك التي لا تمتلك روحا مثل الأحجار.
أما الأجسام السماوية، فهي أجسام بلورية تكمن في داخلها روح تحركها، وهذه الروح تحركها قوة واحدة لا تتحرك، وفي اقتراب كبير من فكر أرسطو حول المحرك الذي لا يتحرك (الله).
مركزية الشمس
كان نيكولاس كوبرنيكوس (1473- 1543) من أوائل العلماء الذين ساهوا بإحداث قطيعة إبستيمولوجية مع المعرفة العلمية السائدة آنذاك.
وُلد كوبرنيكوس في مدينة تورون البولندية على حدود مقاطعة بروسيا الألمانية، وكان والده يعمل تاجرا للنحاس في تورون، وكانت والدته تنحدر من عائلة تجارية رائدة، وبعد وفاة والده تولى خاله الذي كان رجل دين، تربيته وتعليمه.
سافر كوبرنيكوس إلى إيطاليا في سن الـ18 عاما لدراسة قوانين وتشريعات الكنيسة الكاثوليكية، لكنه وجد نفسه يميل إلى الرياضيات، وفي عام 1491 ذهب إلى جامعة كراكاو، حيث درس الرسم والرياضيات، وعلم الفلك والتنجيم.
وبتأثير من خاله عاد كوبرنيكوس إلى إيطاليا لدراسة القانون الكنسي، وفي عام 1501 بدأ بدراسة الطب في جامعة بادوا، لكنه لم يكمل دراسته ولم ينل الشهادة، بسبب اضطراره للعودة وشغل منصب في الكنيسة.
في عام 1515 انتشرت دراسة لـ كوبرنيكوس في مجال الفلك، لكن هذه الدراسة لم تكن مكتملة، وفي عام 1532، أنهى أول مخطوطة لكتابه الثاني "عن مدارات الأجرام السماوية" الذي أثبت فيه أن الكواكب تدور حول الشمس بدلا عن الأرض، لكن الكتاب لم ينشر حتى عام 1543، أي بعد نحو شهرين من وفاته.
عام 1538 أرسل ميلانكثو أحد أهم شخصيات الإصلاح الديني إلى جانب لوثر، جورج يواخيم ريتيكوس مبعوثا من جامعة فيتنبرغ ليدرس مع كوبرنيكوس، وقد ساعد ريتيكوس كوبرنيكوس في حساباته النهائية لتحركات الأجسام السماوية.
ينقسم الكتاب إلى قسمين: يقدم القسم الأول فكرة عامة عن نظام الشمس، وفيه يعترض على نظريات الإغريق، في ما يتناول القسم الثاني من الكتاب على الحسابات الرياضية لحركة الكواكب، وهو جزء تقني أكثر بكثير، ولكنه استخدم الأدوات الهندسية نفسها التي استخدمها الإغريق (الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير).
أدرك كوبرنيكوس أن الترابط بين الظواهر الطبيعية سيؤدي إلى نموذج مترابط للكون، وفي إهدائه الكتاب إلى البابا بولس الثالث، أوضح كيف نقله تفكيره من ترابط الظواهر الطبيعية إلى نموذج مركزية الشمس الأكثر ملاءمة لها.
وقد أثبت كوبرنيكوس أن الشمس هي مركز دوران الكواكب، وجميع الكواكب الأخرى تدور حولها، وأن النجوم لا تتحرك وهي تبدو كذلك بسبب دوران الأرض حول نفسها، وأن حركة الأرض حول نفسها تجعلنا نرى الكواكب تتحرك في الاتجاه المعاكس.
في هذا الكتاب شكل كوبرنيكوس قطيعة مع نظرية بطليموس التي ظلت مهيمنة على العقول لنحو ألف عام، وكانت نظرية بطليموس تقول إن للأرض قوانين مختلفة تماما عن قوانين الأجسام السماوية، وبسبب ثقل الأرض الكبير كان يعتقد أنه من المستحيل أن تتحرك بشكل دائري وأن حركتها لا بد أن تكون في خط مستقيم، وبالتالي لا يمكن للأرض أن تبقى على بعد ثابت من المركز الكوني.
وبقوله بمركزية الشمس بدلا من الأرض داخل المنطومة الكونية، شكل كوبرنيكوس مرحلة انتقالية بين فيزياء العصور الوسطى والفيزياء الحديثة التي بدأت مع غاليليه.
ومع أن كوبرنيكوس لم يكن أول من قال بمركزية الشمس، حيث سبقه إلى ذلك عالم الفلك اليوناني أرسطرخس المتوفى 230 ق م، إلا نموذج كوبرنيكوس كان أكثر دقة من نموذج أرسطرخس.
ليس هذا هو الأهم، بل الأكثر أهمية هو أن كوبرنيكوس استطاع أن يشيد على هذه الفكرة، نظاما كونيا متناسقا، اضفى على التصور البشري للكون مزيدا من النظام والمعقولية، وفتح آفاقا جديدة أمام البحث العلمي.
كتب كوبرنيكوس في مقدمة كتابه:
بذلت جهـدا لأقـرأ كتـب الفلاسفة التي تمكنت
من الحصــول عليهـا حتـى أتـأكد ممـا إذا كـان
أحـدهـم قـال بـوجـود حركـات أخـرى للأجـرام
الرياضية في المدارس، فوجدت أن شيشرون
يذكر بأن هيكتـاس من سيراكـوس كـان يعتقد
بأن الأرض تدور، ووجدت ثانيا أن بلوتارخ يشير
إلى أن آخرين أخذوا بهذا الرأي.
كان نموذج كوبرنيكوس إنشاء عقليا عاليا ومدعوما بمشاهدات حسية ضعيفة، وقد اضطر إلى استعمال أفلاك التدوير والشمس البعيدة عن المركز لكي يجعل منظومته متسقة مع الملاحظات.
لكن هذا النموذج ولد ثورة في خبرة الحياة المباشرة، بمعنى أن الإنسان برؤية العالم من منظور مختلف، وقد دعي هذا المنظور التفكيري الانعكاسي الاستبعادي والعكسي بالثورة الكوبرنيكية.
في البداية، لم يقتنع سوى عدد قليل بنظرية كوبرنيكوس لأن نسقية نظريته تنسجم مع نتائج الملاحظة المباشرة، فحركية الأرض تناقضت مع اساسيات الفيزياء في ذلك العصر ومع مقولات الكتاب المقدس، فالأجسام الثقيلة كالأرض تسقط طبيعيا نحو مركز الكون، فكيف تبقى الأرض معلقة.
وتشير التجربة الحسية إلى أننا لا نتحرك، فضلا عن أن حركة الطيور والسحب لا تتأثر بحركة الأرض، كما أن حركة الأرض تفترض أن تتغير رؤيتنا لأماكن النجوم، وهذا لم يحدث.
هجوم الكنيسة
كان الاعتراض على كتاب كوبرنيكوس يتصاعد بشكل تدريجي، فكانت البداية بمهاجمة طلبة من الجامعات المكان الذي طبع فيه كتابه، وحاولوا تحطيم المطبعة وتمزيق النسخ المتبقية وإتلاف النسخة الخطية.
ثم قامت إحدى الفرق المسرحية التابعة للكنيسة بتقديم مسرحية للسخرية من كوبرنيكوس، حيث صورته بالفلكي الذي يبيع نفسه للشيطان، بعدها قامت الكنيسة بإصدار بيان جاء فيه إن "هذا الفلكي الذي يريد البرهنة على أن الأرض هي التي تدور وليست السماء والشمس والقمر، كما لو أن شخصا ما يجلس في عربة متحركة أو في سفينة سائرة، ويظن نفسه ثابتا والأرض والأشجار هي التي تتحرك".
في إشارة الى سفر يشوع يش 10:12 "يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أَيلون"، قال مارتن لوثر إن كوبرنيكوس أحمق يريد أن يقلب علم الفضاء رأسا على عقب.. هذا الأحمق يعادي الكتاب المقدس.
وفي عام 1616 وضع كتاب كوبرنيكوس "عن دورات الأجرام السماوية" في قائمة الكتب المحرمة من قبل الكنيسة، وفي نفس الوقت صدر قرار من البابا بإدانة جميع الكتابات التي تؤيد حركة الأرض حول الشمس، وظل هذا الكتاب في القائمة السوداء لمدة قرنين حتى عام 1835 عندما أزيلت عنه لعنة التحريم.
أصبح من المعتاد الحديث عن التحول الكوبرنيكي منذ أشار الفيلسوف الألماني كانط إلى فرضية كوبرنيكوس في كتابه "نقد العقل الخالص"، حيث أشار كانط إلى أن الفلسفة في حاجة إلى تغيير في منظورها، فالتجريبية نظرت إلى العقل بوصفه ورقة بيضاء.
وفي عام 1910 كتب آينشتاين إن "كوبرنيكوس بكثير من الصبر ألغى محورية الأرض وبدأ يجعلها تدور وكأنها رصاصة تنطلق من بندقية ويطلقها في الظلام نحو هدف مجهول مقدس، ثم يعثر على القوس كي يصيب الكون العتيق المثالي بجرح آخر أليم يجعله يصرخ".