لم تمر
مصر بنظام سياسي مستبد وفاسد كما هو الحال مع نظام
السيسي، ولم تمر بمستبد مغرور وهلامي
كما هو الحال مع السيسي. حتى ملوك مصر المعاصرة لم يبلغوا ما بلغه من صلف وعنجهية وتكبر، بل حتى عبد الناصر في أوج شعبيته الطاغية التي مسحت المجال العربي من المحيط إلى الخليج؛ لم يكن ذلك ليخوله التصرف بهكذا تعالٍ.
المفاجأة ليست أن
يبدأ شعب مصر في إعادة اكتشاف الشارع وتحدي طغمة السيسي التي تجثم على صدره، المفاجأة هو لماذا تأخر إلى الآن.
ربما أحد أهم مؤشرات هذا الغرور والصلف هي الطريقة التي استفز بها حد النخاع عائلات بسيطة وفقيرة، تحمّلت شظف العيش وتجاوزت عن سياسات النظام في تفقير الطبقات الشعبية الضعيفة، بل وحتى الطبقة الوسطى أو ما تبقى منها.
أهم مثال على الصلف سكان جزيرة الوراق في محافظة الجيزة، وهم ممن يواجهون قرارات التهجير والهدم العشوائية المتوالية للنظام، في سياق مشاريع ربحية لعائلات وشركات مقربة من السيسي. تبلغ مساحة الجزيرة قرابة 5.7 كلم مربع، وعدد سكانها يقارب مئتي ألف نسمة، وتتبع محافظة الجيزة. و80 في المئة من أهلها يقطنون منازل لا تتعدى مساحتها سبعين مترا مربعا. يعمل سكان الجزيرة في الزراعة والصيد، وهو أحد المبررات التي يرونها سببا لاستحالة تخليهم عن أراضيهم التي تعد من أخصب الأراضي، خاصة أنها تطل على نهر النيل مباشرة، إلى جانب أنها مصدر رزقهم.
التصعيد حصل خاصة منذ 2018، عندما قرر مجلس الوزراء المصري نزع ملكية الأراضي وإخراجهم من إراضيهم في سياق "مخطط سكني" جديد، مع تعويضهم. في نهاية الأمر ملخص "المشروع الحكومي" هو اقتلاع نمط عيش يعود لعقود عديدة من أجل مشروع شركة إماراتية.
السيسي بعد فشل محاولة الانتزاع منذ سنوات قليلة، عاد في فترته الرئاسية الثانية ليصرح في أحد لقاءاته العام الماضي قائلا: "الجُزر اللي في وسط النيل دي المفروض ميبقاش فيها حد". تصريح من برجه العاجي الفرعوني بلا أي اعتبار لمشاعر الناس، كأنه يفسخ خريطة من على ورقة فوق مكتبه.
سكان "الوراق" كانوا من بين من تحدوا توحش النظام وعنجهيته وخرجوا إلى الشوارع، لأنهم لم يعد لديهم شيء يخسرونه ببساطة.
لكن الملفت للانتباه أيضا
المظاهرات الليلية في الأرياف، كأن الناس يؤدون طقسا ليليا بعد صلاة العشاء وقبل الخلود إلى النوم.. كأنها حفلة الشاي الدورية.. الأرياف حيث أكثر التقاليد محافظة، وحيث نسق الحياة الراكد، المتجانس مع نسق الأنظمة الراكدة، هذه الأرياف إن تحركت فإن الأمر بلا شك جلل. نحن بصدد قلق عميق في أعمق أعماق المجتمع وأفئدة الناس.
القلق أيضا في الخندق المقابل، فشاهدنا قنوات النظام تنتقل في بضعة أيام من التعتيم المطلق على المسيرات التي بدأت تخرج في القرى وبعض الأحياء المصرية في القاهرة وغيرها، إلى التهجم عليها. رأينا النظام يحكي كالعادة بمفردات التآمر و"التهويل"، ثم لينتقل هو إلى تقاليد نقل الناس بالباصات وتجنيد المؤجرين بسياراتهم للخروج إلى الشارع في
مسيرات مضادة. وكل ذلك تحت مانشيتات تحصر كالعادة أي احتجاج في سياق "إخواني"، ولا يعلم النظام أنه باختزال المعارضة هناك، لن يستطيع من جهة كبحها بتخويف الناس من "أخونتها"، لكنه أيضا بصدد الدعاية المجانية لجماعة "الإخوان" وتضخيم دورها والمساهمة في إعادة طرحها كطرف أساسي في المعادلة.
السيسي مغرور بلا شك، لكن ذلك النوع من الغرور الذي يؤدي اليا إلى
حالة غباء عميقة.
من جهة أخرى العالم يراقب، فالنظام تحت المنظار الدولي، الأممي تحديدا. وقد حثت مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، الجمعة، السلطات في مصر على "احترام الحق في حرية التعبير والتجمع"، من خلال الالتزام بالمعايير الدولية. وفي بيان نشره موقع مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على الإنترنت، قالت باشيليت: "أذكِّر الحكومة المصرية بأنه تحت مظلة القانون الدولي، للناس حق في التظاهر بشكل سلمي".
الآن ماذا يحدث داخل النظام؟ هل يتقاسم كله التصريحات المطمئنة للسيسي؟ لفت انتباهي بشكل خاص تأكيد زير الدفاع الفريق أول محمد زكي في لقاء مع طلبة وأعضاء هيئة التدريس في الكلية الفنية العسكرية يوم الخميس؛ أن "رجال القوات المسلحة لديهم وعي كامل بكافة المخاطر والتحديات التي يواجهها الوطن"، مشددا على ضرورة أن يتحلى أفراد القوات المسلحة بـ"الانضباط الذاتي". ما معنى ذلك؟ هل يعني أن الجيش ككل سيتحلى بـ"الانضباط الذاتي" وأنه غير معني بالدفاع عن السيسي؟ سنرى.
لكن إذا لاحظنا أي شيء في العقود الماضية والتجارب المتوالية، فهو أن جدار الصد القوي للمؤسسة العسكرية يتشقق كلما زاد الضغط الشعبي، من أجل استيعابه وإعادة البناء من جديد، مثلما ضحّى بمبارك لن يتوانى عن التضحية بالسيسي إن استوجبت الحاجة في ديمومة النظام ذلك.
twitter.com/t_kahlaoui