يستمر التردي العربي في الآونة الأخيرة، وتتساقط دولة إثر أخرى في شرك التطبيع مع الاحتلال، في نكوص جليّ عن الثوابت العربية والإسلامية. ولم تكن هذه الاتفاقيات بطبيعة الحال وليدة لحظة فارقة، أو نتيجة عروض اقتصادية وسياسية مبهرة، بل هي تتويجٌ "طبيعيّ" لسنوات من التواصل والتنسيق والشراكة، على صعدٍ ومستويات عديدة.
يظل الأمن هاجس الأنظمة المطبعة الرئيس، وواحدا من الميادين التي استُنزفت تطبيعا في السنوات الماضية، وقد كشفت صحف عالمية محطات كثيرة منه، وسط صمت هذه الأنظمة، وتغاضيها الفج عن كل هذه الأخبار والمعطيات.
وعلى أثر إعلان دونالد ترامب عن اتفاقية "أبراهام" لتطبيع العلاقات بين الاحتلال والإمارات، وزيارة وفدٍ من دولة الاحتلال لدولة الإمارات، ومرور طائرة الوفد فوق الأجواء السعودية، في خطوة عدها الكثيرون "طبيعية" و"متوقعة"، أعلن ترامب عن انضمام البحرين إلى هذه الاتفاقية وتطبيع علاقاتها مع الاحتلال، إلى جانب إشارات ترامب المتكررة إلى أن دولا أُخرى ستنضم لركب المطبعين، وأن السعودية ليست بعيدة بتاتا عن مثل هذه الاتفاقيات، ما يفتح الباب أمام دولٍ أخرى، لن تجتهد كثيرا في البحث عن مبررات علنية للتطبيع مع الكيان الغاصب، فشماعة السلام و"المصالح العليا"، مبررات دائمة الاستحضار في مثل هذه الحالات.
ولكننا في هذا المقال سنتناول جانبا آخر من التطبيع، فهل ستكون له آثارٌ مباشرة على القدس المحتلة والمسجد الأقصى؟ وهل تضمنت هذه الاتفاقيات ما يُشير إلى المدينة المحتلة، ما يمكن أن يفتح الباب أمام موجة أخرى من التهويد المتصاعد أصلا؟
الأقصى في اتفاقية "أبراهام"
شكل اتفاق التطبيع بين الإمارات ودولة الاحتلال تطبيقا عمليا لمفاعيل صفقة القرن، إذ تضمنت بشكل فج ما تريد سلطات الاحتلال الوصول إليه في المسجد الأقصى المبارك، وهي الرؤية التي ثبتها كوشنير في الصفقة، التي نشرت مع بدايات هذا العام.
وبالعودة إلى الاتفاقية، فقد نصت على منح المسلمين "حرية الوصول والعبادة إلى المسجد الأقصى"، بينما "يمنح أبناء الديانات الأخرى حرية العبادة في بقية المساحات المقدسة لهم". وبفعل الأمر الواقع في القدس المحلتة، أشار هذا البند بشكل أساسي إلى اليهود.
وقد أشار متخصصون بالشأن المقدسي، إلى أن الإمارات من خلال هذه الاتفاقية، قد وافقت على "تقزيم" مساحة المسجد الأقصى من مجمل مساحته المسورة البالغة 144 دونما، إلى مساحة أربعة دونمات فقط، وهي مساحة المصلى القبلي. ولم تكتف بذلك، بل ساوت بين حق المسلمين الأصيل بالصلاة والتعبد في أرجاء المسجد المبارك، وبين "حق" مختلق لليهود لممارسة صلواتهم وطقوسهم التلمودية في أنحاء الأقصى.
وفي سياق إعادة تعريف "الوضع القائم" في اتفاقية لا تضم الدولة صاحبة الوصاية على المقدسات في القدس أو أي طرف فلسطينيّ معتبر، تُطرح الكثير من علامات الاستفهام، إذ تشير هذه البنود إلى محاولة إماراتية لتكون الجهة البديلة عن الأردن في الإشراف على المسجد الأقصى، ولكنه إشراف لا يتعارض مع رؤية الاحتلال للمسجد، ولا يمنع وجود مكون بشري غير المكون الإسلامي داخله، إذ إن تفريط الإمارات بجزءٍ كبيرٍ من الأقصى في اتفاقية "السلام"، سيفتح الباب أمامها لتقديم المزيد من التنازلات في شؤون أخرى.
الأقصى بين دعوات الزيارة والصلوات المشتركة
تجتهد الإمارات في إظهار صورتها حاضنا للأديان المختلفة، إذ أشار مراقبون إلى أن تسمية الاتفاق ليست بعيدة من هذه الصورة التي تحاول الإمارات الظهور بها، لذلك لجأت القيادة الإماراتية بعد سقوط ذريعة منع الاحتلال من ضم الضفة الغربية وإعلان نتنياهو أنه لن يتراجع عن هذه الخطوة، إلى ذريعة أخرى، وهي تسهيل "زيارة" المسجد الأقصى، وأن الإمارات ستكون محطة لكل من يريد زيارة القدس ومسجدها المبارك، من مختلف أصقاع المعمورة.
ولم تكن هذه الدعوات من جهة الإمارات فقط، ففي تغريدة نشرها حساب "إسرائيل بالعربية" في 2 أيلول/ سبتمبر 2020، روج فيها إلى سهولة وصول زائر القدس انطلاقا من الإمارات؛ إذ أشارت التغريدة إلى أن المواطن الإماراتي سيتمكن من "ركوب الطائرة من أبو ظبي إلى تل أبيب في ثلاث ساعات، ثم ركوب القطار إلى القدس في 30 دقيقة، ثم ركوب القطار الخفيف إلى باب العامود في 15 دقيقة، ثم المشي سيرا على الأقدام إلى المسجد الأقصى في 15 دقيقة"، وهو ترويج مقصود من حسابات تتبع جهات رسمية في حكومة الاحتلال.
ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تكون هذه الدعوات "بريئة"، فهي تحمل بذور المزيد من التدخل في المدينة المحتلة، وفي شؤون المسجد الأقصى، الذي يتعرض لحملة شرسة من قبل أذرع الاحتلال لتغيير الوضع القائم، وليس آخرها تركيب الاحتلال سماعاتٍ على عددٍ من أسطح المسجد، وأداء المستوطنين صلوات علنية داخله، والإجراءات المشددة أمام أبواب المسجد بحجة الوقاية من كورونا.
الصلوات المشتركة وصفة إماراتية- إسرائيلية لـ"تقاسم الأقصى"
ومع عقد اتفاقية السلام بين الاحتلال والإمارات، بدأت أذرع الاحتلال محاولة الاستفادة من موجة التطبيع هذه، وفرض المزيد من الاعتداء على الأقصى.
ففي 15 أيلول/ سبتمبر 2020، اقترحت صحيفة "جيروزاليم بوست" إقامة "صلاة مشتركة" في الأقصى، يحضرها كل من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد. وأشارت الصحيفة إلى أن السلام يتطلب الإقرار"بحق اليهود بالصلاة في جبل المعبد".
وأكدت "جيروزاليم بوست" في مقالها الذي حمل عنوان: "هل حان الوقت لتطبيع جبل المبعد؟"، أن أشياء كثيرة لم تكن طبيعية باتت طبيعية اليوم، وأن كثيرا من المحرمات لم تعد كذلك، وقد حان الوقت لكسر أكبر المحرمات وهو صلاة اليهود في المسجد الأقصى، وتحقيق نبوءة التوراة في سفر إشعياء التي تقول: "بَيْتِي يُدْعَى بَيْتَ الصَّلاَةِ لِكُلِّ الشُّعُوبِ"، بمعنى أن "الهيكل سيصبح بيتا للصلاة لجميع الأمم في آخر الزمان".
هذه الأطروحات التي تنتقل من الزيارة إلى الصلاة المشتركة، وما سبقها من دور الإمارات في المنطقة وإمكانية تدخلها في الأقصى بشكلٍ أكبر بحسب نص الاتفاقية، توحي بأن الاتفاق ليس بين دول في المنطقة، بل بين أديانٍ تمثلها بالشكل "الأمثل" الدول الموقعة، ما يجعل مستقبلا أي تهويد يتعرض له المسجد الأقصى واستهداف المكون البشري الإسلامي فيه وفي القدس، أمرا جائزا وشرعيا، بناء على الاتفاق الذي تم، وأن صلاة الأديان في الأقصى أو في الإمارات هي فعل طبيعيّ جدّا.
والخشية من قادمات الأيام وما يحمله هذا "السلام"، إن كانت هذه هي البداية فقط.
المراجع:
- موقع مدينة القدس، 29/7/2020.
- تي آر تي عربي، 4/9/2020.
لهذه الأسباب جريمة تطبيعهم كارثية
هكذا أسالت "الثورة المضادة" لعاب اللص الصهيوني