ليست هذه هي المرة الأولى التي يُقتل فيها مواطن وتحاول السلطة أن تجعل منه مجرما يستحق القتل، خاصة حينما يقع المواطن ضمن مسلسل قد تتشابك فيه الأحداث التي تنتهي بقتل المواطن. وهنا تتفتق ذهنية السلطة المستبدة الفاشية عن طريقة ممنهجة في تحويل الضحية إلى مجرم، فتخرج السلطة بريئة بأياد بيضاء رغم أنها أيديها ملطخة بالدماء.
هكذا يبدو السيناريو في كل مرة؛ ولذلك حينما قلنا إن من قتل "
عويس الراوي" ليس إلا رأس النظام المنقلب القاتل "عبد الفتاح
السيسي" لم يكن ذلك تزيدا، ذلك أن المنظومة بأسرها تتواطأ في هذا المقام حتى تجعل الرواية التي استقر عليها الناس وأكدوا صحتها بأنها سردية شاذة، وأن سردية السلطة هي السردية المعتمدة أو التي يجب أن تكون كذلك.
فالسلطة المستبدة بكل أطرافها تقوي بعضها بعضا مهما كانت روايتها ضعيفة. هكذا يبدو تواطؤ أجهزة متعددة.. الرئاسة التي لا تنظر إلى الحدث مطلقا تحت مبدأ "دعه يحدث دعه يمر" حتى لو كان هناك مواطن مقتولا، والإعلام يتبنى رواية كاذبة ويتهم أصحاب الرواية الحقيقية بأنهم من أهل الشر والإخوان لم يريدوا بروايتهم إلا أن يجعلوا الدولة في حرج، وأنهم يرتكبون سلسلة مؤامرتهم في الترويج لرواية يريدون من خلالها صناعة ضحية تكون وقودا لاحتجاج أو تمرد أو حتى ثورة، وأنهم يريدون بشكل أو بآخر أن يجعلوا منها "خالد سعيد" آخر.
وكذلك نجد وزارة الداخلية تخرج البيانات الملفقة وتبرر فعلتها، وتؤكد عدم مسؤوليتها عن القتل وتلفق الروايات المتعددة والمتضاربة حتى تتوه الحقيقة. ومن ارتكب الجريمة بالمباشرة قد اختفى تماما من المشهد، ثم بعد ذلك تتوالى المشاهد للتعتيم والتلفيق، للإرغام على رواية معينة تنفي الرواية الحقيقية المتداولة بين الناس. لا بأس في هذا المقام أن يخرج الناس وقد عاينوا الحدث (حدث القتل وقيام الضابط بقتل عويس الراوي بدم بارد) وأن يقوموا بالاحتجاج أو يبادرون بإقامة جنازة له، فتفرقهم الشرطة وبالغاز المسيل للدموع، وتجبر أهله على القيام بمراسم لتقبل العزاء فيه.
كلها مشاهد إكراهية تقوم بها السلطة حتى تتدبر أمرها وتنفض يدها وتبرئ ساحتها. ولكن في هذه المرة فإن السلطة لم تكتف فقط بأن تخلي سبيلها وتبرئ ساحتها، بل هي اتهمت المقتول ذاته فصيرته مجرما إرهابيا. هذه المرة من تولى الأمر هي النيابة العامة التي أصدرت بيانا متهافتا ملفقا اتهمت فيه عويس الراوي بتهم الإرهاب، وأنه حاول مقاومة السلطات واستخدم سلاحه الآلي. ولا بأس بصورة تذكارية لعويس الراوي وهو ممدد على الأرض مقتولا وبجانبه السلاح، رغم أن كل الأهالي الذين لم يبعدوا كثيرا عن مسرح الحادثة وشهود عيان ينفون كل ذلك.. إلا أن النيابة تمضي في طريقها لتجعل الضحية إرهابيا، وتحاول بكل شكل أن تجعل من "عويس الراوي" هو المعتدي على الدولة والمقاوم لسلطانها وسلطاتها، ولا بأس بإرغام
الأهل وخصوصا الأب على نفي رواية شهود العيان؛ تحت عناوين مفبركة في الصحافة والإعلام عن مفاجآت يعلنها والد المقتول في روايته.
هذه المرة تقوم النيابة العامة متواطئة بإصدار بيانها في يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر يمتلئ بسردية تخالف رواية الناس. السلطة والحكومة تعرف كل شيء وتروج ما أرادت بخصوص حادثة مقتل المواطن "عويس". ورغم أن القاتل معروف، وأن المقتول قد قتل في منزله بسلاح الضابط القاتل فجر يوم 30 أيلول/ سبتمبر، لم يصدر البيان إلا بعد خمسة أيام من مقتل "الراوي". وجاء البيان مخالفا للحقيقة منافيا للوقائع وشهادات شهود العيان، وجاء ليعطي مصداقية وتبرير للقاتل.
هكذا وعد السيسي ابتداء حينما تعهد بأن أي ضابط أمن يقتل من يقتل بسلاحه فلن يحاسب، قالها المنقلب بالنص ومن غير مواربة.
ورغم أن الرواية التي صدرت في البداية من أجهزة إعلام النظام لم تشر بأي حال إلى أن المقتول كان مطلوبا، بل إن مداهمة المنزل كانت للسؤال عن شخص آخر هو ابن عم القتيل "ضياء الراوي"، ادعت النيابة أنها أخطرت بوفاته بعد محاولته مقاومة قوة الشرطة التي توجهت إلى مسكنه وذويه المطلوب ضبطهم نفاذا لإذن النيابة العامة، وذلك بسلاح ناري آلي ضبط جوار جثمانه بقصد الحيلولة دون تنفيذ الإذن. وهنا يأتي هذا البيان منافيا أصلا لتقرير النيابة العامة؛ حيث جاء فيه ضمن رواية شهود العيان التي أكدت أن "عويس" لم يكن مطلوبا وأنه لم يشارك في أي أعمال عنف أو تظاهرات، ولكن أحد الضباط قد قتله بثلاث رصاصات سكنت إحداها في صدر "عويس" فكان بها مقتله.
كل ذلك لم يكن ليعني أن الأجهزة المتواطئة لا ترى بأسا في تلفيق التهم حتى يمكن أن تخرج من هذه القضية بدون متهم أو اتهام، بل هي التي تقدم الاتهام وتصنف الضحية كإرهابي، وهو ما يؤكد هذا المعنى: إما أن تكون مواطنا فتُقتل وإما أن تكون إرهابيا فتُقتل. إن هذه المواطنة المستباحة في ظل سلطة استقوت على المواطنين واستطالت عليها بسلاحها، ولوحت به كل حين واستخدمته في مجازر عدة تحت دعوى أن هؤلاء قد خرقوا القانون أو هددوا هيبة الدولة. إن سلطة هذا شأنها إنما تجعل في حقيقة الأمر، ومن خلال امتلاكها أن تكون هي القاتل والحكم في آن واحد وتحتكر الرواية التي تروجها، المواطن "إرهابيا مجرما"، والسلطة من حقها أن تمارس القتل في مواجهة الخروج على القانون والتمرد على الدولة. في عرف هذه السلطة المواطن صار "مشروع مقتول" أو "مواطنا تحت القتل"!
هكذا يمكننا التعرف على حال المواطنة في مصر وإلى المحطة التي وصلنا إليها وإلى المشاهد التي لا يمكن تخيل وقوعها. في كتابنا الذي أشرنا إليه حول تأميم الدولة للدين، أشرنا إلى أن السلطة حينما كان المواطن يعارضها أو يتأفف من فعلها فإنها كانت تتهمه بالجنون (المواطن المجنون)؛ وكانت تضعه في مستشفى المجانين، أما اليوم فالسلطة لم تعد تصبر حتى على اتهامه بذلك فيكون حيا أمامها بل عليها أن تتخلص منه، فتكون المحصلة "المواطن المقتول".
وفي حال أخرى المواطن أحيانا في ظل ظلم السلطة ربما تدفعه إلى الانتحار، وهو ما أشرنا إليه في نموذج الطالب "عبدالحميد شتا"؛ ولكن الآن لم يعد لديها حتى الوقت لتسلمه إلى الانتحار، ولكنها تعتبر أن أي إيماءة بالرفض منه لا يمكن إلا أن تقابل بالرصاص والقتل السريع والإصابة في سويداء القلب.
ليس لمواطن أن يدعي كرامة أو شرفا يثأر له أو أهلا يُستنفر من أجلهم، بل عليه أن يتقبل الذل من غير تعقيب أو اعتراض أو تحفظ. وإذا كان مواطنا صالحا فعليه أن يقبل المزيد من الذل، ذلك أن المواطن المثالي بالنسبة للسلطة الباطشة التي لا تقيم وزنا للنفوس ولا لكرامة وعزة؛ إنما هو المواطن القابل للذل وإلا فليس له إلا الرصاص. ثم لها أن تختلق الروايات وتقدم السرديات الزائفة وتكذّب الشعب الذي رأى والناس الذين عاينوا الحدث، وعلى الجميع ألا يسمع أو يرى أو يتكلم إلا ما تراه تلك السلطة الباطشة، فروايتها هي المعتمدة، فلم يكن عويس الراوي "المواطن المقتول" إلا إرهابيا وجب أن يُقتل! فمن يمكنه أخذ الحقوق للمواطن له حقه ومقامه وكرامته، ولحرمة النفس قدسيتها؟!
twitter.com/Saif_abdelfatah