يطرح تطبيع السودان علاقاته مع الاحتلال الإسرائيلي تساؤلات حول ما سيعقب الخطوة من ارتدادات على الداخل السوداني سياسيا وشعبيا واقتصاديا، في ظل انقسام حزبي حاد تجاه التطبيع.
وتطبيع الخرطوم يناقض الموقف التاريخي للقمة العربية عام 1967، والتي أكدت أنه "لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع
إسرائيل"، لتشتهر بـ"عاصمة اللاءات الثلاث".
وبالنظر
إلى مواقف الأحزاب والتجمعات السودانية يظهر الانقسام جليا بشأن التطبيع مع
الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما
على صعيد الأحزاب الداعمة والمشاركة في السلطة الحالية.
وبدأت
في 21 آب/ أغسطس 2019، مرحلة انتقالية بالسودان تستمر 39 شهرا تنتهي بإجراء
انتخابات، ويتقاسم خلالها السلطة، الجيش و"قوى إعلان الحرية والتغيير"،
قائد الاحتجاجات الشعبية، التي أدت إلى خلع الرئيس عمر البشير.
وقوى "الحرية والتغيير" تعتبر التحالف الأكبر في
تاريخ السودان، وتمثل المكون المدني في السلطة الانتقالية، وتتكون من "تجمع
المهنيين"، و"تحالف الإجماع الوطني"، و"تحالف نداء
السودان"، و"تحالف التجمع الاتحادي والقوى المدنية" (عدد من أجسام
ومنظمات المجتمع المدني).
ومن
هذه المكونات، يعارض التطبيع "تحالف الإجماع الوطني" وأبرز أحزابه ("الشيوعي"،
"البعث العربي الاشتراكي"، "الناصري")، إلى جانب المكون
الأكبر في "تحالف نداء السودان" ممثلا في حزبي "الأمة
القومي" وحزب "البعث السوداني".
وتحالف
"نداء السودان" يتكون من أحزاب: "الأمة القومي"،
و"المؤتمر السوداني"، و"البعث السوداني"، و"الجبهة
الثورية" (حركات مسلحة).
اقرأ أيضا: السودان: البت باتفاق التطبيع مع إسرائيل يعود للبرلمان
في المقابل،
أعلنت "الجبهة الثورية" بشقيها (الجبهة الثورية، والجبهة الثورية بقيادة
مناوي)، ترحيبها بالتطبيع، فيما يرى "المؤتمر السوداني" أنه
"ليس هناك أي موقف أيديولوجي ضد إسرائيل".
ولم يعلن أي من "تجمع المهنيين" و"التجمع الاتحادي" و"القوى
المدنية" موقفه من التطبيع حتى الآن.
وطالب
الكاتب والمحلل السياسي السوداني خالد الإعيسر الأحزاب الرافضة للتطبيع في تحالف
السلطة، بالخروج من التحالف.
وكتب
الإعيسر في تغريدة عبر "تويتر": "مبدئيا، وأخلاقيا، ووطنيا.. كل من
اعترض حزبه على التطبيع يجب أن يستقيل سريعا".
التطبيع وتحالف السلطة
لكن المحلل
والكاتب السياسي خالد المبارك، استبعد في حديثه لـ"عربي21" حصول "شرخ
أو انهيار" في التحالف المدني المكون والداعم للسلطة الانتقالية، رغم معارضة جزء
منه للتطبيع.
ويرى أن هذا التحالف "توطد خلف قضايا سودانية محلية تتصل بمعارضة
النظام الحاكم واستمر بعد الإطاحة بالبشير على هذا الأساس".
ويدلل على ذلك،
بالإشارة إلى أن حزب "الأمة القومي" ورئيسه الإمام الصادق المهدي رفض التطبيع،
لكنه في ذات الوقت لم يشارك في مسيرات 21 تشرين أول/أكتوبر الحالي لكي لا يضعف الحكومة.
وقال المبارك: "تيار الشباب في الحزب هو الذي اشترك في الثورة".
واندلعت منذ
أيام مظاهرات احتجاجية في العاصمة الخرطوم تطالب بإصلاح مسار الثورة، تزامنت مع أخرى
معارضة للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ويشير الكاتب
خالد المبارك إلى أن أحزاب "تحالف الإجماع الوطني" تخشى من عودة فلول
النظام السابق، وعليه فإنه يستبعد إقدامهم على "إحداث شرخ في جبهة الحكومة
الحالية".
وفي نظرة
مغايرة، يرى المحلل السياسي عباس حسن أحمد، أن الموقف من التطبيع ليس بالعامل
القوي الذي يدفع باتجاه تفسخ التحالف المكون للسلطة الانتقالية.
وتوقع تحقق انهيار تحالف السلطة الانتقالية لسببين، الأول: أن "تحالف نداء السودان" يعمل على المحافظة على الدولة العميقة
التابعة للنظام البائد، والثاني: أن المكون العسكري بالمجلس السيادي يسعى إلى إقصاء قوى
الحرية والتغيير عبر تكوين مكون جديد يدعى "شركاء السلام"، يضم إليه
الجبهة الثورية (الحركات المسلحة) الموقعة على اتفاق جوبا للسلام الشهر الماضي.
وفي حديثه
لـ"عربي21" يلفت أحمد إلى أن "التحول الجديد عبر التطبيع" لم تقده مكونات السودان
المعروفة، بل قاده العسكر الذين ينتمون لنظام الجبهة الإسلامية القومية، وذلك عبر
اللجنة الأمنية داخل مجلس السيادة التي تولت ملف العلاقات الخارجية رغم تبعيته
المفترضة لوزارة الخارجية.
اقرأ أيضا: خبير إسرائيلي يرصد أهمية تطبيع السودان بالنسبة للاحتلال
ويقول إن اللجنة
الأمنية تكونت من قبل الرئيس المخلوع عمر البشير، وهي تضم رتبا عسكرية كبيرة، ولم يكونوا
لينالوا هذه الرتب ما لم يتوفر فيهم الانتماء لحزب المؤتمر الوطني والولاء الخاص للبشير.
وتابع:
"اللجنة الأمنية جزء من النظام القديم، وقبلت بالتطبيع عبر ابتزاز إقليمي
جعلها ترضخ للضغوط الأمريكية".
وعبر عن
استغرابه من عدم صدور موقف من قبل "تجمع المهنيين" بالسودان من التطبيع، إلا أن
يرجح أن التجمع يميل نحو رفض التطبيع، نظرا لأنه مكون محسوب على التيار اليساري.
ويتفق الكاتب والمحلل السياسي محمد الأمين مع ما ذهب إليه أحمد، من أن تحالف القوى المكونة للسلطة معرضة إما "للفض أو إعادة الترتيب" كنتيجة لترتيبات اتفاق سلام جوبا مع الحركات المسلحة.
ويؤكد لـ"عربي21"، على أن القرارات، ومنها التطبيع، يدار من قبل مطبخ سياسي مغلق مصغر، حيث أن نالأجسام الهيكلية للتحالف شبه ميتة أو مُغيبة وغير فاعلة.
ويقول المحلل السياسي محمد فاتح النعيم إن كفة مؤيدي التطبيع في تحالف السلطة مرجحة لكن بفارق بسيط، ومن المحتمل أن يزيد من التصدعات داخل "قوى الحرية والتغيير" مستقبلا، نظرا لحساسية القرار. مرجحا في حديثه لـ"عربي21" أن يزيد قرار التطبيع من الاستقطاب داخل الأوساط السياسية السودانية.
التأثير على أحزاب المعارضة
وعلى صعيد
الأحزاب خارج السلطة، تقف التيارات الإسلامية المختلفة ضد التطبيع، ومن أبرزها
"حزب المؤتمر الشعبي" وحركة "الإصلاح الآن".
في المقابل،
يعتبر "حزب الأمة" بقيادة مبارك الفاضل، من أكبر المؤيدين للتطبيع.
ولم يصدر موقف
حول التطبيع من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو أحد الأحزاب خارج السلطة لكنه يبدي مرونة تجاه الفترة الانتقالية.
ويتوقع الأمين أن تتخذ السلطات من التطبيع "ذريعة لحصار وضرب المجموعات المحسوبة على التيار الاسلامي"، وقال: "ستقوى يد العسكر ويد المدنيين المرتبطين بهم، وتزداد الشهية للتأسيس لنظام عسكري ديكتاتوري في جوهره مدني في مظهره الخارجي".
ويعتقد المختص في الشأن السوداني هاني الدالي أنه "لا يوجد وزن حقيقي للأصوات المؤيدة للتطبيع داخل الشارع السوداني"، مشددا على أن جميع الأحزاب والمكونات السودانية الكبيرة والمؤثرة موقفها رافض للتطبيع.
ويضيف لـ"عربي21"، أن التطبيع لا يعكس توجها عاما لدى أطياف المجلس العسكري، موضحا أن "الجيش السوداني معروف بعقيدته التي تعتبر العدو الصهيوني هو العدو رقم واحد".
وتحظى القضية الفلسطينية ببعد ديني وقومي عند مختلف أطياف الشعب السوداني، وفق ما قاله الدالي، الذي يرجح أن خطوة التطبيع هي "صفقة بين عبد الفتاح برهان وعبد الله حمدوك"، إبان اندلاع الاحتجاجات الشعبية للمطالبة بإصلاح مسار الثورة في 21 تشرين أول/أكتوبر الجاري.
وهذه الصفقة كانت بضغط من البرهان على حمدوك ليقبل بالتطبيع مقابل التدخل العسكري ضد الاحتجاجات التي كان من المتوقع لها أن تتصاعد ضد الحكومة، كما تحدث الدالي.
ويستدل بتراجع تصريحات حمدوك ووزراء بالحكومة السودانية حول التوصل لاتفاق تطبيع مع الاحتلال إلى القول إن الاتفاق هو "اتفاق مبادئ"، ويحتاج إلى إقرار من المجلس التشريعي المنتخب فيه.
لكن المحلل الفاتح النعيم يرى وجود تباين آراء الشارع السوداني تجاه التطبيع، بين جيل قديم مرتبط بالقضية الفلسطينية على نحو أكثر من جيل الشباب.
عامل الاقتصاد
ويميل الكاتب المبارك إلى أن أصوات
الاحتجاج ضد التطبيع والتي يعبر عنها التيار الإسلامي "لا تمتلك صدقية عند المواطنين
السودانيين"، في تقليل من احتمالات خوض الشارع السوداني مظاهرات كبيرة ضد
التطبيع.
ويقول: "المناخ السائد يضع الأزمة المالية والاقتصادية
كأولوية، ويهتم الناس بمعالجتها بأي وسيلة".
ويأمل السودان أن تؤدي خطوة التطبيع وإزالة
اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في انتشال الاقتصاد من حالة الاحتضار.
ويعتبر المبارك أن السودانيين
"سيقبلون خطوة التطبيع كسياسة براغماتية مرنة" إذا ما ترتب عليها فوائد
اقتصادية ملموسة.
وتبلغ الديون
الخارجية على السودان 60 مليار دولار ويحتاج بشكل ملح لمساعدة مالية لإعادة تنظيم
اقتصاده. وبلغ التضخم 167 في المئة في آب/أغسطس الماضي، وهبط الجنيه بصورة حادة مع
طبع الحكومة أموالا لدعم الخبز والوقود والكهرباء.
ويستبعد المحلل السياسي عباس أحمد اندلاع
احتجاجات شعبية في السودان ضد التطبيع، بسبب ما تمارسه السلطة الانتقالية من
"عملية تشويش وخداع وإخفاء للحقائق" حول اتخاذها قرارا مصيريا دون
العودة للشعب.
وقال:
"ما يجري في السودان هو تعتيم كامل على ما حدث، وبالتالي فإن رئيس الوزراء عبد
الله حمدوك والمجلس العسكري اتبعا نفس الأسلوب القديم في التعامل مع الشعب
السوداني عبر الكذب والتضليل وإخفاء الحقائق".
ويلفت إلى وجود انقسام حاد في الشعب
السوداني تجاه التطبيع، منبها في ذات الوقت إلى أن "الأمر مشوش عليه من خلال
تركيز الحديث عن الفوائد المترتبة على إزالة اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب".
وأردف: "يبدو أن حمدوك واللجنة الأمنية
خائفون من ردة فعل المجتمع السوداني تجاه التطبيع، لذا فهم يتعمدون تسليط الضوء على فوائد
إزالة اسم السودان من التطبيع".
وتطرق بيان صدر
عن مجلس الوزراء السوداني، مساء الأحد، إلى الفوائد التي ستعود على السودان جراء
رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مشيرا إلى إعفاء السودان من الديون الخارجية
المتراكمة البالغ قيمتها 60 مليار دولار، إلى جانب عودة الاستثمارات المالية ورفع
القيود على الحسابات المالية والسفر للسودانيين وإتاحة الوصول للمنتجات التقنية
والتكنولوجية.
من جانبه، يرى المحلل محمد الأمين أن "الاحتجاج الشعبي ضد التطبيع لا يزال ضعيفا نسبيا، وأن الوضع الاقتصادي السيء له دور في ذلك".
ويضاف للعامل الاقتصادي "حملات إعلامية وتضليل وتغبيش للوعى برفع سقف التوقعات تجاه الإنفراج الاقتصادي والمالي والعودة إلى حضن المجتمع الدولي، وإثارة شبهات مثل العرب والفلسطينيين مطبعين، وحالة الإنهاك والعجز وغياب الرؤى التي تعاني منها القوى السياسية السودانية بصورة عامة"، كما تحدث الأمين.
بدوره، يرى المختص بالشأن السوداني هاني الدالي أن التركيز على فوائد إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب من قبل السلطات كان بمثابة "دس للسم في العسل"، لإلهاء الشارع السوداني عن حقيقة التطبيع.
ويقول: "لكن الأوضاع لن تستمر بهذه الطريقة"، مشيرا إلى تكوين الأحزاب السودانية "جبهة وطنية ضد التطبيع"، مضيفا "التطبيع لن يرى النور في ظل شعب سوداني أصيل مساند للقضية الفلسطينية عبر التاريخ".
وحول الفوائد الاقتصادية للتطبيع على السودان، قال الدالي: "الدول الأفريقية التي طبعت خير دليل على عدم تحقق فوائد من التعامل مع الاحتلال، وأمام السودان تجارب ماثلة سواء في إريتريا أو التشاد التي طبعت لكنها لا تزال دول فقيرة إلى الآن".
وينفي أن تكون مناصرة السودان للشعب الفلسطيني سببا في الأزمة الاقتصادية بالبلاد، منبها إلى أن التدهور الاقتصادي بدأ منذ التدخل الإسرائيلي بدعم الميليشيات المسلحة في جنوب السودان ما أدى إلى تقسيم البلاد وخسارة السودان لثرواته النفطية التي تتركز في الجنوب.
وربما يشعر الشعب السوداني بتحسن بسيط لفترة قصيرة جراء رفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفقا للدالي الذي يرى أن "الفوائد لن تكون استراتيجية في ظل البنود التي تضعها أمريكا مثل احتكار الاستثمارات والسيطرة على مناجم الذهب في السودان ووضع قاعدة عسكرية في البلاد".
محللون يقرأون أبعاد تطبيع السودان على حصار المقاومة بغزة
هل تأجّل ملف تطبيع السودان والاحتلال أم جرى تجميده؟
سودانيون يرفضون التطبيع مع الاحتلال رغم وعود الانفتاح (شاهد)