علمانية ماكرون في حديث "الجزيرة"

عندما وجد الرئيس الفرنسي نفسه محاصرا بهذا الغضب الشعبي الإسلامي الواسع الذي لم يكن يقدره حق قدره، اضطر أن يخاطب الغاضبين من خلال منبر يثقون فيه، فلم يجد سوى قناة الجزيرة، وبدلا من أن ينتهز هذه الفرصة لإصلاح أخطائه فإنه استثمرها ليعيد كل أفكاره وأحقاده ولكن بطريقة أكثر نعومة لتناسب المشاهد العربي والمسلم، وليعيد تحميل المسلمين بل الإسلام ذاته المسؤولية عن القتل والإرهاب، رغم أنه قال في حديثه أن 80 في المئة من ضحايا الإرهاب هم مسلمون.

من حق "الجزيرة" أن تفخر بأنها القناة التي اختارها ماكرون لقوة تأثيرها، ولم يختر قناته الناطقة بالعربية (فرانس 24) ولا قنوات حلفائه العرب في أبوظبي والرياض والقاهرة؛ لأنه يدرك أنها ذات تأثير محدود، وأنها ليست محل ثقة غالبية المشاهدين في العالمين العربي والإسلامي، لكن من حقنا على "الجزيرة" أيضا أن ننبهها إلى الخطأ الذي ارتكبته بتمرير رسائل ماكرون الشريرة دون رد، ناهيك عن تجنب طرح الأسئلة المهمة؛ من عيّنة موقفه من الاعتداء الذي تعرضت له سيدتان محجبتان أمام برج إيفل على يد متطرفين فرنسيين، ولماذا طردت سفارته في موريتانيا رسام كاريكاتير بسبب رسوم عن ماكرون؟ وما رأيه في اليمين المسيحي المتطرف الذي يقتل على الهوية أيضا؟.. إلخ.

لم يعتذر ماكرون كما كان متوقعا، وإن خفف حدة تصريحاته السابقة تحت وقع المقاطعة المتنامية لمنتجات بلاده، وتحت ضغط المظاهرات الحاشدة التي عمت العديد من الدول الإسلامية، بما فيها تلك المستعمرات الفرنسية السابقة التي لا تزال فرنسا حريصة على التواصل معها، أو تتمتع بوجود عسكري وسياسي فيها. كما أن مظاهر الغضب انفجرت حتى في البلدان التي يرتبط ماكرون بعلاقات صداقة وتحالف مع قادتها، مثل مصر التي تظاهر فيها المصلون بساحة الجامع الأزهر يوم الجمعة الماضي.

ولم يتراجع ماكرون عن جوهر تصريحاته ومواقفه السابقة، ولكنه ادعى أن المسلمين أساءوا فهمها، وأن ترجمتها كانت خاطئة (وكأن كل المترجمين لتصريحاته أخطأوا في الترجمة بما في ذلك تغريدته المكتوبة بالعربية)، بل إن ماكرون راح يضيف إهانات جديدة مرت على محاوره، مثل اتهامه للإسلام بطريقة غير مباشرة بالقتل، حين قال إن العلمانية لم تقتل أحدا لكن هناك أديان تقتل، فهو لا يقصد المسيحية أو اليهودية بذلك، بل كان الاتهام موجها للإسلام، متناسيا كم قتلت هذه الأديان الأخرى من المسلمين سواء في الحروب الصليبية التي كانت بلاده أحد أعمدتها الرئيسية، أو في حروب الاستعمار للبلدان الإسلامية، او في الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو غيرهما من الحروب.

استغل ماكرون الحوار ليقدم مرافعة طويلة دفاعا عن العلمانية الفرنسية التي تختلف عن العلمانية البريطانية والعلمانية الأمريكية. والأخيرتان تعترفان بحق أصحاب الديانات المختلفة في التعبير عن شعائرهم الدينية، بما في ذلك ارتداء الحجاب للمسلمات، في حين تحاربه فرنسا بزعم أنه مظهر ديني غير مقبول في الجمهورية العلمانية. وادعى ماكرون أن الخلفيات التاريخية للعلمانية الفرنسية تختلف عن بقية العلمانيات الغربية، متجاهلا أن الديانة الثانية في بلاده الأن للمسلمين وبالتأكيد هم لا يشاركونه تصوراته تلك، بل هم متضررون منها.

وفي هذا الإطار مرر ماكرون كذبة جديدة حول عدد المسلمين الفرنسيين الذين قدر عددهم بين 4 و6 ملايين، بينما تشير التقديرات إلى أنهم بين 8-10 ملايين مسلم، وهؤلاء من حقهم ممارسة شعائر دينهم بحرية بحكم كونهم مواطنين فرنسيين كاملي الحقوق. كما أن ماكرون حين طلب منه المحاور أن يقدم رسالة طمأنة لهم استنكف عن ذلك، وردد كلاما هلاميا عاما عن ضرورة الطمأنة، لكنه لم يقدم خطوة ملموسة مثل وقف ملاحقة جمعياتهم ومدارسهم وإغلاقها، أو سن تشريع يمنع الإساءة لمقدساتهم أسوة بالتشريع الذي يمنع المس بالمحرقة اليهودية، والأغرب أنه طلب من الجزيرة نفسها أن تقوم بمهمة الطمأنة، ويقصد بذلك عدم بث أو نشر ما يزيد الغضب لدى المسلمين في العالم وحتى داخل فرنسا.. يا له من متغطرس!!

أخطأ ماكرون في تقديراته لمشاعر المسلمين لأنه اعتمد في هذه التقديرات على حلفائه في أبو ظبي والرياض والقاهرة، ولذا فإنه بعد إدراكه لهذا الخطأ لجأ إلى مخاطبة الشعوب مباشرة بعيدا عن حكامهم وقنوات هؤلاء الحكام، ولكن ماكرون يعيد خطأ التقدير مجددا برفضه الاعتذار الواضح والصريح عن الإساءة لنبي الإسلام، ويتسبب بغطرسته تلك في خسائر كبيرة لبلاده على المستويين الثقافي والاقتصادي، ولن تسعفه وقفة ترامب أو ميركل أو جونسون معه.

ربما يتوقع ماكرون أو يصور له حلفاؤه مجددا أن غضبة المسلمين الحالية هي أمر مؤقت لن يطول كثيرا، ويراهن من ثم على عنصر الزمن لخفوتها، ولكن المسلمين الذين أدركوا قوة هذا السلاح (المقاطعة) لن يسقطوه ولا ينبغي لهم أن يسقطوه من أيديهم، حت يجبروا ماكرون على الاعتذار الصريح، ووقف حملته على المظاهر الإسلامية في فرنسا. وعلى الأرجح ستسهم مقابلته مع الجزيرة في تأجيج مشاعر المسلمين وليس تهدئتها، كما أن المقابلة ستخصم كثيرا من رصيد "الجزيرة" لدى مشاهديها ما لم تسارع لإصلاح خطئها.

twitter.com/kotbelaraby