يُقدمُ الجوار المغربي الجزائري صورةً نموذجيةً عمّا يمكن وسمُه بـ"صراع الإخوة الأعداء". فالبلدان يشتركان في كل شيء: في الدين والتاريخ واللغة، وفي الآمال والتطلعات والمصير المشترك. أما التمازج البشري، والعائلي، والوجداني، فلا حدود له..
إننا في الواقع أمام مفارقة غريبة يصعب على عاقِل من البلدين قبولها واستيعاب آثارها السلبية. ولشدة غرابة هذه المفارقة، يُصاب القارئ بالذهول حين يعرف أن من أصل 58 سنة مرت على استقلال الجزائر (1962- 2020)، ظلت الحدود البرية مُغلقة بين البلدين مدة 45 سنة، وما زالت إلى يومنا على حالها من جانب واحد، أي الطرف الجزائري.. وليتصور معي القارئ الكريم كم هي كُلفة إغلاق الحدود بالنسبة للعلاقات البشرية والإنسانية، وانسياب رؤوس الأموال والبضائع، وانتعاش الاستثمارات واستقرارها وتوطينها، وتطور الحركة الاقتصادية ونموها وتكاملها؟
لرفع عناء الإجابة عن القارئ الكريم أذكِّره بأن صندوق النقد الدولي توصل في إحدى دراساته الرصينة قبل سنوات، إلى أن دول المغرب الكبير، ومنها المغرب والجزائر، تُضيِّع سنويا، نتيجة عدم تحقيقها مشروع بناء المغرب الكبير، ما يفوق واحداً في المائة من إنتاجها الخام الوطني.. إنها كُلفة لافِتة، وخطيرة في الآن معا، على منطقة تأتي في ذيل مراتب التجمعات الإقليمية في العالم من حيث معدلات ونسب العلاقات البينية.
صندوق النقد الدولي توصل في إحدى دراساته الرصينة قبل سنوات، إلى أن دول المغرب الكبير، ومنها المغرب والجزائر، تُضيِّع سنويا، نتيجة عدم تحقيقها مشروع بناء المغرب الكبير، ما يفوق واحداً في المائة من إنتاجها الخام الوطني
لماذا ظلت الحدود المغربية الجزائرية مُغلقة أكثر من أربعة عقود، ولا يُعرَفُ على وجه اليقين متى يُفرَج عنها لتُفتح أمام الشعبين الشقيقين؟ وكيف نُفسر منطق "صراع الإخوة الأعداء" الذي لازمَ البلدين منذ استرجاع استقلالهما الوطني؟ وما السبيل لتحويل كُلفة عدم البناء إلى قوة لدعم البناء المشترك وتعظيم أرصدة إنجازاته الجماعية؟
نُصارح القارئ الكريم بصعوبة الإجابة بشكل كامل ومُقنع عن الأسئلة أعلاه في الحيز المخصص لهذه المقالة، فللموضوع نصيب وافر من الأدبيات والكتابات، وتحليلات متابعي الشأن المغاربي. ما نستطيع القيام به في الحدود المسموح بها، دعوة القارئ الكريم إلى اقتسام ما بدا لنا مصادرَ ومنطلقات لتفسير واقع صراع الإخوة في بلاد المغرب.
يُعتبر التاريخ، والتاريخ الاستعماري تحديداً، أحد المصادر القوية لتفسير صراع المغرب والجزائر. فمما تثبته الوثائق التاريخية، وهي مُتاحة أمام الباحثين، أن فرنسا أعادت رسم الحدود بين مستعمراتها بشكل غير متوازن، وبطريقة فيها الكثير من الإجحاف والغُبن بالنسبة للبعض تجاه البعض الآخر. ولأن العقيدة الاستعمارية الفرنسية حتى أربعينيات القرن العشرين لم تكن تظن أنه سيأتي يوم تُغادر فيه الجزائر، فقد اقتطعت بغير حق أطرافا من التراب المغربي والتونسي وضمتها قسراً إلى الجزائر، التي تحولت في دستور الجمهورية الثالثة (1875) إلى مقاطعة فرنسية لما وراء البحار. وحين نالت بلدان المغرب استقلالها، وانقسمت القارة الأفريقية حول مبدأي "عدم المسّ بالحدود الموروثة من الاستعمار" و"استرجاع الأراضي المقتطعة من طرف فرنسا"، أي مبدأ "الوحدة الترابية"، انتصرت الجزائر للمبدأ الأول، وتنكرت للاتفاقات والعهود المبرمة بينها وبين المغرب، ومن هنا بدأ الصراع بين البلدين.. نحن إذن أمام صراع تاريخي لعب الاستعمار دورا مركزيا في صناعته، ولم تتمكن الحكومات الجزائرية المتعاقبة على تجاوزه بما يخدم عدالة الوحدة الترابية المغربية.
يُعتبر التاريخ، والتاريخ الاستعماري تحديداً، أحد المصادر القوية لتفسير صراع المغرب والجزائر. فمما تثبته الوثائق التاريخية، وهي مُتاحة أمام الباحثين، أن فرنسا أعادت رسم الحدود بين مستعمراتها بشكل غير متوازن، وبطريقة فيها الكثير من الإجحاف والغُبن بالنسبة للبعض تجاه البعض الآخر
يجد الصراع المغربي الجزائري مصدره الثاني في مناكفة الجزائر المغرب في ملف استرجاع أقاليمه الجنوبية المحتلة من طرف إسبانيا. فمنذ 45 سنة (1975- 2020) وحتى الآن، استثمرت الجزائر إمكانيات كبيرة لإعاقة استكمال المغرب لوحدته الترابية، بدعم روح الانفصال في الأقاليم الجنوبية المغربية المسترجعة، موظفة بشكل مستمر أحد المبادئ شائعة التداول في أدبيات الأمم المتحدة، أي "حق الشعوب في تقرير المصير"، علما أن لهذا المبدأ سياقاته، ومتطلبات تطبيقه.
يكتسي المصدر الثالث للتفسير طابعاً سياسياً وأيديولوجياً، يتعلق بما اعتبرته النخبة السياسية القائدة في الجزائر اختلافاً في التوجهات السياسية والأيديولوجية بينها وبين المغرب.. فقد دافعت طيلة سيادة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، على شعارات ومقولات ذات منحى اشتراكي وشعبوي، ونعتت المغرب بالمحافظة والانحياز للغرب ومنظومته، لتخلُص إلى أن التجربة المغربية في البناء الوطني بعد الاستقلال تعوق إقامة علاقات مستقرة ودائمة بين البلدين. والحقيقة أن مآلات البناء الوطني في الجزائر أثبتت جسامة عدم صحة هذه التصورات، وأنها كانت نظرة أيديولوجية مُضلِّلة ليس إلا.
ثمة مصدر آخر للتفسير يتعلق بانحسار عملية الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي في الجزائر، على الرغم من الهبّات الاجتماعية التي شهدها البلد منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1988، وحتى انطلاق الحرك الأخير في 22 شباط/ فبراير 2019، والمطالبات المتصاعدة بإعادة بناء الشرعية المتآكلة منذ سنوات.
والحقيقة أن حصول تطورات ديمقراطية فعلية وعميقة في الجزائر، ستساعد على إخراج الصراع المغربي الجزائري من المأزق، وستضعه على طريق البناء المشترك المُثمِر والفعال، لسبب طبيعي هو أن إقامة مؤسسات ديمقراطية ستُخرج ورقة الصراع المغربي الجزائري المفتعل من دائرة التوظيف الأيديولوجي، وستسمح للهيئات التمثيلية، أي للمواطنين الجزائريين، من قول كلمتهم في ما يجب أن تكون عليه علاقة الجوار مع المغرب.
لقد زرت هذا البلد الشقيق مرات عديدة، وتشرفت بالتعرف على نخبته الجامعية والأكاديمية واشتغلت إلى جانبها علميا في أكثر من مكان وعلى أكثر من موضوع.. وقلما وجدت من بين هؤلاء الذين تعرفت عليهم من يتبنى أو يدافع عن مصادر توتر العلاقات المغربية الجزائرية، بل إن كلمة واحدة ظلت على ألسنة الجميع: من المستفيد من تأخير إنجازات المصير المغربي الجزائري المشترك؟