حضرت الطائرة وصعد أدهم مع "لي لي" وأخبر الجميع أن يستكملوا عطلتهم، وأنه سيطمئنهم على زميلتهم.
ظل أدهم ممسكا بيد "لي لي" يخاطبها دون كلام، مرة يعدها بأنه لن يتركها تواجه شياطين جهنم القابعين بماضيها وحدها، وألف مرة يعتذر لها لأنه السبب لما هي فيه الآن.
أخيرا وصلوا للمشفى وأخذوها منه ليبتعدوا بها لإجراء الفحوصات الطبية، انتظر دقائق مرت عليه كدهر، وأخيرا ظهر الطبيب فأخذ أدهم يسأله عن وضعها وهل استفاقت أم لا؟
أخبره الطبيب بصوت هادئ: ستكون بخير لا تقلق..
لكن يبدو أنها تعرضت لضغوط نفسية شديدة.. قليلا من الراحة والهدوء وستتعافى، وأنه قد كتب لها بعض الأدوية لخفض درجة حرارتها.
قال له أدهم: لا بد أن أراها. أخبره الطبيب أن يذهب الآن ويعود صباحا فهي بكل الأحوال ما زالت غائبة عن الوعي، لكن أدهم أصر على البقاء معها والدخول إليها فسمح له الطبيب بشرط ألا يتحدث معها أو يرهقها.
دخل أدهم الغرفة، لأول مرة يرى "لي لي" ضعيفة، لأول مرة يشاهد على ملامحها النائمة ذاك الحزن والوهن. كانت ملابس المشفى تكشف كثيرا من يدها التي تم توصيل بعض المحاليل بها، ووجد الممرضة تتأمل آثار حروق واضحة لتستدير وتسأله: هل تعرفها جيدا؟ لم يقوى على الرد وعيناه مثبتتان على تلك الحروق بيدها، سألته كيف لتلك المسكينة أن يكون جسدها مشوها بكل علامات التعذيب تلك، أي وحش فعل بها ذلك؟
نظر أدهم إليها مرددا جملتها: بكل علامات التعذيب؟ أهناك علامات غير هذه (ناظرا ليدها)؟
أخفضت الممرضة وجهها وهزت رأسها بالموافقة دون أن تتكلم، وخرجت من الغرفة.
ظل أدهم لحظات لا يقوى على الحركة، ينظر لتلك الندوب البشعة ويتخيل ما حدث لها، ثم اقترب وجلس على الكرسي بجانبها، ودون شعور سقطت دموعه وهو يسمع في ذهنه صرخاتها من الألم وتلك العلامات تحفر جلدها.
أمسك أصابعها وأقسم أنه لن أترك من فعل ذلك، لن أتركه. أغمض عينيه لحظات ربما لكنه استفاق على صوتها تئن وتتمتم بكلمات غير مفهومة، اقترب أكثر ليفهم ما تقول، إنها تتمتم باسم شخص عمر.. عمر.. اعتدل بجلسته ينظر لها.. من عمر؟ أهو حبيبك؟ هل ما زال قلبك ينبض بحبه؟ ثم أغمض عينيه بألم.. حتى لو كان كذلك يا صغيرتي سأبحث عنه..
إن كان حيا سآتي به، فأنتِ تستحقين السعادة، وإن كان قد مات فأنتِ تستحقين أن تحيي وتتركي الماضي بقبره.
لم يستطع أدهم النوم، ظل مستيقظاً، فهمهمات "لي لي" وبكاؤها وهي نائمة، وصراخها أحيانا دون وعي منها، اضطره أن يستدعي الطبيب أكثر من مرة فأعطاها بعض المهدئات.
أتى الصباح وعلامات الإرهاق والتوتر كانت محفورة في وجه أدهم، طلبت منه الممرضة أكثر من مرة أن يذهب لبيته ويرتاح وعندما تستفيق "لي لي" ستتصل وتخبره، لكنه رفض بشدة، لا يمكن أن تفتح عينيها فلا تجده أمامها، لا يمكن أن تكون وحيدة مرة أخرى.
انخفضت درجة حرارتها، كفت عن الهمهمة واستقر وضعها، ولكنها ما زالت غائبة عن الوعي. كاد أدهم أن يفقد صوابه، وكاد الطبيب أن يعطيه هو الآخر مهدئا، وفجأة سمع صوت "لي لي" تقول له توقف عن الصراخ قليلا.
فالتفت بسرعة ليتأكد أنها فعلا تكلمت، وأنه لا يهذي، فوجدها قد فتحت عينيها وتنظر له، ابتسم واقترب بسرعة منها قائلا: أخيرا الأميرة النائمة استيقظت.
لم يجبها أدهم، ولكنه ردد لنفسه: ستكونين أميرة قلبي دائما.
طلب منه الطبيب أن يخرج ليفحصها فخرج دون اعتراض، مما جعل الطبيب يبتسم ويقول: لأول مرة منذ أتى بكِ يلتزم بما أقوله له، فهو لم يغادر الغرفة لحظة.
بعد دقائق خرج الطبيب وطمأن أدهم بأنها أصبحت بخير ويمكنها أن تغادر المشفى، لكنها تحتاج لبعض الرعاية والهدوء.
دخل أدهم الحجرة فوجد "لي لي" جالسة، ولكن ما زال وجهها شاحبا، لكن عاد لوجهها جموده وعادت عيناها جليديتين مرة أخرى، لكنه هذه المرة لم ينزعج من ذلك، فلقد علم أن ما مرت به جعلها تختبئ وراء هذا المظهر.
ابتسم وقال لها: الطبيب سمح لك بالخروج بشرط الراحة وأن يكون هناك من يعتني بك. لذلك سنخرج من هنا إلى بيت عمتي، ستقيمين معها حتى تشفين تماما.
نظرت إليه بحدة قائلة: أنا لا أحتاج أن يرعاني أحد، أنا أهتم بحالي جيدا. وبهدوء قال لها: إما بيت عمتي أو المشفى؟ وبنفس التحدي قالت: لا هذا ولا ذاك، سأعود لبيتي. رضخ أدهم لكلامها، فالطبيب طلب منه ألا تتعرض لأي انفعالات.
قال لها: موافق بشرط أن تسمحي لي بالاطمئنان عليك، وقبل أن ترد قال: وشيء آخر.. أريد أن اعرف اسمك الحقيقي، واسم عمر كاملا.. لم يكد ينطق باسم عمر حتى فتحت فمها وسقط قناع الثلج مرددة اسمه ببطء وتعجب: ع. م. ر.
أين سمعت باسمه؟ قال لها كنت تنادينه وأنت فاقدة الوعي.. أدارت وجهها وقالت: الأمر لا يعنيك.
فتح فمه ليصرخ بها ويقول ليته لا يعنيني، لكن تذكر كلام الطبيب.
فقال لها بهدوء: كنت أريد مساعدتك في البحث عنه، لدي العديد من الأصدقاء بالشرطة هناك يمكن لهم مساعدتنا.
لم يستطع أن يأتي على ذكر الأمن الوطني أمامها.
انتفضت من مكانها وتحركت تجاهه لتتمسك بيده كي لا تسقط أرضا: حقا ما تقول؟ هل ستبحث عنه؟
الحب الذي ارتسم على وجهها طعنه ألف طعنه، فهو الآن ليس بحاجة لسؤالها: هل ما زالت تحبه أم لا؟ لقد أجابت عيناها.. أدار وجهه حتى يخفي ألمه قائلا: هذا إذا قبلتِ طبعا.. وبلا تردد أجابته: نعم.. نعم بالتأكيد أقبل. وبسرعة أعطته اسم عمر وكل بياناته.
دوّن أدهم كل شيء قالته ثم نظر إليها وقال: وأنت ما اسمك؟
بلا تردد قالت: "لي لي" هذه أنا. لم يجادلها وخرجا من المشفى وأوصلها منزلها.
عاد أدهم لبيته واتصل بصديقه هيثم، ليعطيه بيانات عمر، ويطلب منه كل شيء عنه، وإن كان على قيد الحياة أم لا.
صمت هيثم قليلا ثم قال لأدهم: لماذا تسأل عنه؟
غضب أدهم فهو به ما يكفي من ضغوط ولا تنقصه أسئلة هيثم، فأجاب بعصبية: هذا ليس من شأنك، هي خدمات مدفوعة الأجر كالعادة، لا تعنيك الأسباب.
بضحكة سمجة قال هيثم: يا فندم أنا تحت أمرك أنا وعمر أيضا. كاد أدهم أن ينهي الاتصال لكن استوقفته جملة "أنا وعمر أيضا"، فتوقف لحظة ثم قال: ماذا تعني؟
هل تعرف عمر هذا؟ هل ما زال على قيد الحياة؟
ضحك هيثم مرة أخرى قائلا: "يبدو يا صديقي أنك لست متابعا لمشاهير بلادك.. إنه أحد شباب الثورة المخلصين للوطن".
صمت أدهم يحاول استيعاب ما يقال له.
عمر من شباب الثورة المرضي عنهم من قبل الحكومة؟!
كيف؟ وقد أخبرته "لي لي" أنه كان من الرافضين للنظام والثائرين ضده؟ كيف وقد تم القبض عليه واختفاؤه تماما قبل أن تختطف هي وتعتقل؟ ما هذا الهراء؟ هل هذا الهذيان نتيجة قلة النوم والإجهاد؟
ليستفيق من شروده على صوت هيثم ينادي عليه: أدهم أين ذهبت؟.. ألو.
فيرد أدهم بهدوء وتركيز: أنا موجود، لكن أحاول استيعاب كلامك. ربما أنت مخطئ في الشخص يا هيثم، فعمر الذي أحدثك عنه كان ضد النظام وأقول لك تم إلقاء القبض عليه.
يرد هيثم بضحكة عالية: سبحان مغيّر الأحوال، اكتشف أنه مخطئ والرجل تاب وأناب وأصبح رجلنا، لتصدق أننا لسنا شياطين كما يصورنا البعض، فإننا نصفح عمن يتوب ويعرف أنه أخطأ بحق الوطن عندما اتبع خطوات الخونة الذين يريدون إسقاط البلاد وبيعها.
يا أدهم نحن هنا لنحافظ على البلد من الخونة المأجورين، أعداء الوطن.
ظل أدهم صامتا في حالة من الذهول.
لكن صوت هيثم أزعجه ثانية وهو يناديه، ليخرج أخيرا من صمته ويقول آمرا: هيثم كم يوما يلزمك لتكون عندي أنت وعمر هذا؟
تعجب هيثم ماذا؟! تريدنا عندك؟
رد أدهم: نعم وفي أقرب وقت، ولا أريد نقاشا.. تأتي لي به في أسرع وقت.. اعتبرها عطلة على حسابي بالإضافة إلى ثمن الخدمة.
ضحك هيثم مجددا وقال: إذا كان الأمر هكذا فانتظرنا الأسبوع القادم.
حسنا.. هذا كل ما قاله أدهم وأغلق الخط.
ثم ارتمى جالسا على فراشه يمسك برأسه صارخا: عمر رجل الأمن؟
وهو من كان يعرف "لي لي".. لو كان ما يدور برأسي صحيحا، أقسم بأن أجعله طعاما لأسماك القرش ذاك التعيس.