"فلا أستطيع أن أفرض عليهم ما لا يريدون، وهكذا تكون الديمقراطية". بهذه الكلمات صرح الدكتور صلاح فضل لموقع موالٍ للنظام المصري، مجيبا على سؤال حول خطته لقيادة أعضاء مجمع اللغة العربية المصري، بعد أن تم تعيينه وإقصاء رئيس المجمع المنتخب الدكتور حسن الشافعي.
لهذه القصة- الفضيحة بعض التفاصيل، نحتاج إلى معرفتها أولا.
ينص قانون مجمع اللغة العربية على أن أعضاءه ينتخبون رئيس المجمع لفترة تبلغ 4 سنوات. وليس في لائحة المجمع تحديد لعدد فترات رئاسة المجمع. وقد فاز الدكتور الشافعي برئاسة المجمع سنة 2012، وأعيد انتخابه في 2016. وفي أكتوبر الماضي، فاز الشافعي بفترة رئاسة ثالثة، بأغلبية 17 صوتاً، مقابل 9 أصوات لمنافسه صلاح فضل، من أصل 26 صوتا صحيحا.
وبذلك ينبغي أن يصدر رئيس الجمهورية قراراً باعتماد انتخاب رئيس المجمع، طبقاً للمادة العاشرة من قانونه: "ويكون انتخاب المرشح صحيحًا إذا حصل على الأغلبية المطلقة لهؤلاء الأعضاء. ويصدر باعتماد انتخاب الرئيس قرار من رئيس الجمهورية بناءً على عرض وزير التعليم".
لكن وزير التعليم العالي خالف القانون، متجاوزا صلاحياته، مقررا تعيين الدكتور صلاح فضل قائما بأعمال رئيس المجمع. وهذا ليس مفاجئا، فالوزير جزء من حكومة تنتهج القمع وإلغاء كل ما يمثل الشعب منذ الثلاثين من حزيران/ يونيو سنة 2013. أما الغريب في الأمر، فأن يرحب فضل بهذه الخطوة ويبررها تبريرات كثيرة، كل منها أعجب من الأخرى.
والحق أن التوقف عند تبريرات فضل مهم في تقديري، لأنه يكشف عن منهج النظام العسكري في التعاطي مع المسائل الثقافية، أو لنقل، لأنه يكشف عن الوجه العسكري لأي مثقف يقرر الجري وراء مصالحه، ومحاولة تبريرها، معتبرا أن الشعب المصري غبي أو جاهل، أو أن أحدا لن يجرؤ على فحص ادعاءاته.
أولا: صرح فضل في حواره مع جريدة الدستور بأنه "طبقا للتقليد الذي ساد منذ ثورة 1919 حتى الآن فإن القيادات تكتفي بفترتين، ولذلك في تقديري أنه آن الأوان لترشيح قيادة المجمع، وآن الأوان له أيضًا أن يعود إلى سيرته في مراحل الازدهار الأولى عندما كان على ذروته طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد، ومن قبلهم أحمد لطفى السيد".
هذه معلومة واضحة، كررها في وسائل إعلام كثيرة: "تجديد فترات رئاسة المجمع سابقا كان لفترتين فقط لا أكثر". هذه معلومة، وليست وجهة نظر نقدية يمكن تأويلها. وهي معلومة كاذبة بشكل مخجل. دعونا ننظر في قائمة رؤساء المجمع السابقين، لنكتشف أن الفترات الرئاسية السابقة امتدت إلى عشرين سنة كاملة أحيانا، بل الأكثر من ذلك: لم تنته فترة رئاسة أحد من رؤساء المجمع السابقين إلا بوفاته، وليس بسقوطه في أي انتخابات.
من حق فضل وغيره أن يعترض على ذلك المبدأ لكن لا يحق له أبدا أن يكذب هذا الكذب العجيب، فيزعم العكس تماما، ليبرر كونه أول رئيس مجمع يأتي على نقيض قرار أعضائه، خاصة أنه سقط في الانتخابات قبلها بأيام! ها هي فترات رئاسة المجمع السابقة، يمكن ببساطة مضاهاتها بتواريخ وفاة كل رئيس منهم، رحمهم الله جميعا:
محمد توفيق رفعت (1934- 1944)
أحمد لطفي السيد (1945- 1963)
الدكتور طه حسين (1963- 1973)
الدكتور إبراهيم مدكور (1974- 1995)
الدكتور شوقي ضيف (1996- 2005)
الدكتور محمود حافظ (2005- 2011)
أحمد لطفي السيد مثلا (الذي نص عليه فضل بالاسم)، رحل في الحادية والتسعين من عمره، وظل رئيسا للمجمع ثمانية عشر عاما انتهت بوفاته، وهو وجه تنويري شهير في الثقافة المصرية، ولم يعترض أحد. بالطبع يمكن المحاججة بأن المنصب ليس سياسيا بل شرفيا، فإذا ارتأى أعضاء المجمع أن أحدهم هو الأوسع علما، فقد ينتخبونه حتى وفاته، فهو ليس رئيس وزراء مثلا، وليست له سلطات تنفيذية. ويحق لفضل وغيره أن يرفضوا هذا الرأي، لكن لماذا يطلق هذه التصريحات؟
نستطيع أن نربط هذه النوعية من التصريحات بسياق أوسع من التصريحات غير المحسوبة، فلو أحصينا تصريحات السيسي عن الفترة المطلوبة منه للنهوض بمصر، سنجده قال مرة بعد ستة أشهر، ومرة بعد سنتين، ومرة بعد سنة... هذه السلطة ترى في الشعب عبئا، لا مانع من الاستخفاف به إلى أقصى درجة.
ثانيا: في أكثر من حوار صحفي (مع جريدة الوطن وجريدة الدستور مثلا) يصرح فضل بأن منافسه الدكتور حسن الشافعي من خطباء رابعة. مرة أخرى يمكننا ببساطة التأكد من كذب هذا الادعاء دون جهد كبير، لأن خطباء رابعة معروفون، وظهورهم موثق بمقاطع فيديو، وليس للشافعي أي مقطع أو ظهور، لا في رابعة ولا في غيرها.
الأكثر من ذلك أن الرجل حرص على توازن لافت في بياناته الرسمية التي أعلنها أيام الانقلاب العسكري. وبياناته وتصريحاته كلها معلنة، فيها دعوة صريحة لنبذ الشقاق وتجريم لقتل المتظاهرين، ودعوة مؤكدة لأن يحمي الجيش والشرطة المتظاهرين من الطرفين، وإطلاق سراح المعتقلين ونحو ذلك، مما يردده دارسو السياسة، الذين لا يؤمنون بالعنف والدم سبيلا لحل الخلافات السياسية.
لا ننكر على فضل أن يعارض الإخوان، هذا حقه السياسي، لكن يبدو غريبا أن يعاين فضل هذه الآثار الفادحة لدولة يونيو بعد مرور هذه السنوات وتدهور كل شيء في مصر، ثم يستخدم عقلانية الشافعي أيام رابعة سلاحا ضده، بدلا من أن يراجع موقفه، ويطالب الجميع بتأمل ما حدث، لنستفيد على الأقل من فداحة الكارثة.
لو أن الخلاف السياسي في 30 يونيو تم حله وفق آليات السياسة لانتهى بنا الحال أفضل بكثير مما نحن فيه بعد أن جرب المصريون الحلول القمعية التي لا تقف عند حد، لكن فضل يتماهى مع خطاب دولة يونيو: كل معارض، او حتى كل من لا يتطابق مع كل ما نقول ونفعل، هو إخواني عدو لنا..
ثالثا: في تصريحات لموقع اليوم السابع تحدث فضل عن خوضه معركة فكرية حول ضرورة تغيير قانون مجمع اللغة العربية، وتعديل نظام الانتخابات، بعد تولي الشافعي رئاسة المجمع للمرة الثالثة على التوالي، مبررا معركته بما يشبه النكتة: "الدستور الحالي جعل المناصب القيادية تكون لفترتين فقط، والرئيس السابق، قضى فترتين بالفعل فى منصبه كرئيس لمجمع الخالدين".
كان فضل ضمن اللجنة التي صاغت دستور 30 يونيو، الذي نص فعلا على فترتين رئاسيتين، لكن السيسي عدله ليظل رئيسا حتى سنة 2030، أضاف مدة ثالثة لنفسه وحده، وزاد المدة الواحدة من 4 إلى 6 سنوات. لماذا لم نسمع صوت فضل إلا الآن؟ أليس الأولى أن يغضب لأجل الدستور الذي شارك في صياغته؟
ثم أين هي المعركة الفكرية فيما يفعله فضل؟ هل أصبح القفز على مناصب سقط في انتخاباتها معركة فكرية يخوضها الرجل؟ في حواره مع الدستور لا ينفي فضل أن الأعضاء اختاروا الشافعي بالأغلبية، بل يبرر إلغاء الانتخابات بأن هؤلاء متوفرون على اختصاصاتهم اللغوية لكنهم غير متابعين للسياسة، أي أنه يرى بوضوح أنه يمكن إلغاء أي انتخابات لم يصل ممارسوها إلى الوعي الكافي، ومن الذي يحدد هذا الوعي الكافي؟ إنه فضل نفسه طبعا!
أما الكارثة الأفدح فلم يتطرق لها فضل من قريب ولا بعيد، لكنه بالطبع يدركها جيدا، لأنها وردت صريحة في قرار الانقلاب على الشافعي وتعيينه بدلا منه.
حصلت جريدة الشروق على نسخة من قرار الدكتور خالد عبد الغفار، وزير التعليم العالي، المرسل من رئيس قطاع مكتب الوزير إلى المجمع، بتاريخ 18/11/2020، وهو القرار الذي ألغى الانتخابات وعين فضل، وجاء في نص القرار: "... أود الإحاطة بأنه في ضوء انتهاء مدة ولاية الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، في شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية... دون صدور قرار بالتجديد، وحرصا على سلامة سير العمل واضطراد في المجمع واستمراره في أداء رسالته، فقد تم عرض مذكرة على السيد الأستاذ الدكتور الوزير لترشيح من يتولى القيام بأعمال رئيس المجمع لحين الانتهاء من الإجراءات القانونية الصحيحة لشغل المنصب بطريق التعيين".
بغض النظر عن الركاكة والأخطاء اللغوية الظاهرة في مثل "اضطراد"، تطل الكارثة في الجملة الأخيرة: "لحين الانتهاء من الإجراءات القانونية الصحيحة لشغل المنصب بطريق التعيين". الأمر واضح: لا انتخابات في المجمع بعد اليوم، مع أن فضل يزعم أنه يخوض معركته الفكرية حامية الوطيس لتقتصر فترات الرئاسة على فترتين، ثم ينتخب رئيس جديد لتحقيق الديمقراطية! لكن الرؤساء القادمين للمجمع سوف يُعينهم الوزير. لماذا تؤلم الديمقراطية هذا النظام؟ هل شعر أحد بأي تأثير سياسي مناهض لأي حكومة من أي رئيس للمجمع؟
طيب لماذا لا يصارحنا فضل بالحقيقة، هو مجرد واجهة لتغيير لائحة المجمع ليتم تعيين رئيسه، وتنتهي الانتخابات تماما. ما الداعي لكل هذه الأكاذيب المفضوحة عن الدستور وتداول السلطة و....
يتابع القرار تأكيده على إلغاء الانتخابات: "وقد أشر سيادته بتكليف السيد الأستاذ الدكتور/صلاح فضل، الأستاذ بكلية الآداب جامعة عين شمس، وعضو مجمع اللغة العربية، للقيام بعمل رئيس مجمع اللغة العربية لحين الانتهاء من الإجراءات القانونية الصحيحة لتعيين رئيس جديد للمجمع".
حقيقة لا أدري لماذا يذيّل ناقد مرموق مثل فضل تاريخه الأكاديمي بفضيحة كهذه؟
محمد عبد المطلب.. محاولة لمقاربة الوجدان المصري
فساتين مهرجان الجونة: ثلاثة مداخل لفهم الظاهرة!