استطلاعات الرأي ليست دائما عملياتٍ علمية موضوعية، فهي محاولات يتسلل إليها الخطأ كما تتسلل إليها الأهواء، وقد تكون مرتبة وِفق حسابات سياسية أو مصالح ومنافع شخصية.
غير أن ما نُشر أخيرا من نتائج استطلاعات مفادها تصدر الحزب الدستوري الحر قائمة الترتيب في نوايا التصويت، لا يبدو بعيدا عن الواقع رغم ما قد يكون فيه من تضخيم ورغم أن نسبة المتفاعلين مع عملية الاستطلاع لا تتجاوز الثلث.
هناك عزوف حقيقي عن الأحزاب وعن السياسيين بسبب ما عرفته تجارب الحكم منذ 2011 من صعوبات وعراقيل وعجز عن تحقيق مطالب الناس بالقدر المرضي، هذا العزوف سمح للخطاب الشعبوي بسد الفراغات، حتى أصبحت عبير موسي "أملا" للكثير من خصوم الربيع العربي؛ ومن ضمنه حركة النهضة.
النهضة لم تعد تواجه فقط أنصار النظام القديم، بل وحتى الكثير من اليساريين وبعض النخب الإعلامية والثقافية، الذين هم في مسار الثورة وأصبحوا يرون في عبير موسي "منقذا" لهم من حركة النهضة؛ التي يحمّلونها مسؤولية ما انتهت إليه البلاد من متاعب اقتصادية وأمنية ومن تعثر في السياسات الخارجية.
النهضة لم تعد تواجه فقط أنصار النظام القديم، بل وحتى الكثير من اليساريين وبعض النخب الإعلامية والثقافية، الذين هم في مسار الثورة وأصبحوا يرون في عبير موسي "منقذا" لهم من حركة النهضة؛ التي يحمّلونها مسؤولية ما انتهت إليه البلاد من متاعب
حركة النهضة التي تصدر عن مرجعية عقدية إسلامية، ورغم رفعها منذ مؤتمرها العاشر في 2016 شعار الحزب المدني، ورغم فصلها بين العمل السياسي والعمل الدعوي، ورغم ما تشهده حاليا من تشوّش الصورة لدى كثير من الناس، سواء بسبب التعثر السياسي أو بسبب خلافاتها الداخلية، فإنها تظل الضامن الأول لاستمرار المسار الديمقراطي، أيضا لاستقرار المشهد
التونسي وحتى الإقليمي لكونها تتبنى مبدأ التوافق وتُشيع خطابا عقلانيا هادئا، ولكونها تمثل "ظاهرة" ثقافية وسياسية ونضالية مشتركة بين كل التونسيين بمقادير مختلفة.
ويمكن لمن تابع هذه "الظاهرة" أن يلحظ فيها مشتركات ثلاثة بين التونسيين:
1- المشترك العقدي: وهو الأرضية العقدية المشتركة التي تنطلق منها حركة النهضة في صياغة خطابها ومشروعها، إذ أنها تنهض على أرضية عقدية إسلامية مشتركة بين كل التونسسين؛ بحيث يجد أغلب المواطنين أنهم معنيون بشكل ما وبدرجات متفاوتة بمشروع حركة النهضة، ويجدون ضمانات كافية لتأكيد شراكتهم فيه، وهو ما يضمن لهم يسر الانتماء؛ لا بالمعنى الهيكلي الحزبي وإنما بمعنى الانتماء إلى المعاني المشتركة والتأويلات المفتوحة، وهو ما يضمن أيضا الحق في النقد وفي الاقتراح وفي المساهمة الإيجابية بأقدار وأساليب مختلفة.
وليس لأحد من قادة النهضة الحق في القول بأن حركته تختص بهذا الحقل العقدي تأويلا واستنباطا أو دفاعا وحماية. ولعلنا لاحظنا الاندفاع الشعبي التلقائي في الرد على محاولات جس النبض وقياس درجة "الجهوزية التدينية" في المجتمع التونسي. لم تكن تلك الردود استجابة لقرار سياسي أو حمية حزبية، إنما كانت دائما تعبيرا عن غزارة السيلان التديني وعمق معاني العقيدة في الشخصية التونسية، رغم محاولات التجفيف وأشغال التجريف التي استمرت أكثر من عقدين والتي تجند لها مثقفون اشتغلوا جرافات قاسية وحاقدة ومعقدة ومتعالية.
حركة النهضة ليست حركة نخبوية وليست جمعية حقوقية أو ثقافية، ولكنها حركة شعبية تتراكم فيها طبقات من الشعب متفاوتة المستويات المعرفية والعلمية والملكات الإدراكية، وهو ما ينسجم تماما مع طبيعة العقيدة الإسلامية بما هي عقيدة تنطلق من الفطرة وتمتد إلى آلية التفكير؛ بحيث تتوالد عنها أفهام وتصورات وأشواق وأسئلة متجددة. حركة النهضة تقف مع أبناء شعبها على أرضية عقدية خصبة وعميقة، وهو ما يجعلها دائما موعودة بخصوبة شعبية منتظمة ومتعاطفة وشريكة وهذا ما لا يتوفر لغيرها.
2- مشترك التضحيات: حركة النهضة التي دفعت القسط الأكبر من ثمن التحرر بآلاف المساجين والمشردين والشهداء تعي جيدا أنها لم تكن لوحدها في "المحرقة"، ولم يكن عناصرها المنتظمون وحيدين بين أنياب الطاحونة ومعصرة اللحم الحي، إنما كان جل الشعب ضحية "الغزوات الأمنية" على الإسلاميين في محاكمات 1981 و1987 و1991.. لكل شهيد أو سجين أو مشرد أو محاصَر عشرات من أهله وأصدقائه ومحبيه ومن شركائه في الفكرة وفي الأشواق. لقد سُلب الشعب التونسي أمنه وهدوءه وحُرم من صداقاته ومن براءته ومن كثير من الشهامة والرجولة؛ حين ربط الاستبداد معاش الناس ومصالحهم بالاصطفاف خلف الجرافة الشرسة. لقد شوّه الاستبداد مساحة كبيرة من جمال الروح والأخلاق، ونغّص على الأغلبية أشواقها ومحبتها وكدّر صفاءها ولوث براءتها وأفسد الفطرة السليمة في الطفولة.
وقد أدركت حركة النهضة هذا "المشترك" فأعلنت مرارا أنها لا تحمل حقدا ولا ثأرا، وأنها لا تُجرم من اعتصرتهم الماكينة فلم ينصروها، إنما تُجرّم من صنعوا الماكينة وأشرفوا على مشاريع التجريف بإرادة وبغرائزية غادرة تريد الذهاب بهم إلى العدالة الشجاعة.. إن مئات الآلاف من الشباب الذين أنتجهم الاستبداد هم ضحايا، وإن مثلهم من المعطلين ومن المهمشين ومن المقهورين ومن المغدورين في أحلامهم المعيشية والثقافية والسياسية؛ هم جميعا شركاء النهضة في الأوجاع وهم شركاؤها في أرض "المحرقة" لكونهم جميعا عوقبوا بسبب وقوفهم على أرضية عقدية إسلامية أراد لها الاستبداد أن تجفف تربتها وأن يلوث ماؤها وأن يُشوه جمالها.
3- المصير المشترك: لقد تأكد أن الحركة الإسلامية هي النبات الطبيعي في جغرافيا وفي تاريخ تونس، وتأكد أنه لا أمان ولا حرية ولا استقرار ما لم تكن هذه الحركة شريكة في المشهد وفي مفاعيل السياسة والاقتصاد والثقافة.. كلما أوذيت الحركة الإسلامية توجّع جل المجتمع باستثناء "الغربان السود" الذين يقتاتون من اللحم الممزق وينقرون في جراح المعذبين ويجترعون دموع المغدورين.. وكما كانت تضحيات مشتركة - بإرادة أو بإكراه - فإن المصير مع النهضة مشترك أيضا، وإنه لن يكون أحد بمنأى عما قد يطال النهضة من أذى أو من فشل أو من تآمر، وكذا سيكون للجميع نصيبُه الحتمي من نجاح مشروع وطني يتأسس على التوافق وعلى
الديمقراطية، وتكون فيه حركة النهضة شريكا كامل الحقوق والمواطنة بما يقتضيه واجب وحق المشاركة في الشأن العام.
حماقة بعض المهووسين أيديولوجيا لم تزد حركة النهضة إلا شعبية، حيث أصبح الناس ينظرون إليها على أنها القاطرة السياسية والتنظيمية في مواجهة موجات التغريب والتجريف والتجفيف التي لا يكف البعض عن تنشيطها
إن حماقة بعض المهووسين
أيديولوجيا لم تزد حركة النهضة إلا شعبية، حيث أصبح الناس ينظرون إليها على أنها القاطرة السياسية والتنظيمية في مواجهة موجات التغريب والتجريف والتجفيف التي لا يكف البعض عن تنشيطها.
إن الكثير من التونسيين يعتقدون أن هوية تونس العربية الإسلامية مهددة جديا من قبل تيارات لم تجد من الحداثة والعقلانية والعلمانية غير "محاربة" عقيدة الشعب بأساليب بدائية سخيفة وصبيانية وغرائزية حمقاء. وقد اندثر من المشهد أصحاب ذاك الهوس الأيديولوجي، إذ أساءوا تقدير حقيقة التونسيين الثقافية والتاريخية والعقَدية.
حركة النهضة التي لا تزعم وصاية على العقيدة ولا تدعو إلى إقامة دولة "ثيوقراطية"؛ تجد نفسها مطالبة شعبيا وأخلاقيا وشرعيا بالدفاع عن عقيدة الناس عبر بياناتها وخطبها وكتاباتها، وقبل ذلك من خلال بنود الدستور التونسي الجديد، وهو ما يُكسبها مكانة في الضمير الشعبي وفي الخارطة السياسية وما يؤهلها لخوض "معارك" المستقبل على واجهات عدة. ولعل هذا أيضا ما يجعل الكثيرين ينتهون إلى قناعة مفادها أن التصويت لحركة النهضة في جل الانتخابات التي شهدتها التجربة التونسية منذ 2011 إنما هو تصويت "لمشروع الهوية" ولمستقبل أبنائنا وبناتنا؛ حتى لا تمارس عليهم إكراهات ثقافية وعقدية وسلوكية وقيمية عانى منها الملايين من التونسيين طيلة سنوات الدخان. هذا موقف كثير من التونسيين ممن لا علاقة لهم بـ"الإسلام السياسي" ولا بالتنظيمات الحزبية أو بمعسكرات التدريب الأيديولوجي.
مثل هذه "المكانة" تجعل قادة النهضة في دائرة "التصويب" دائما سواء من أنصارهم أو من أتباعهم، وعليهم "الحذَر" دائما من أن تميد من تحت أقدامهم تونس العربية المسلمة الحُبلى بأشواق التحرر والمسكونة بأسئلة الأجيال وبأحلام من أتعبتهم المظالم؛ ينتظرون مواعيد مع العدالة يستعيدون فيها ما سلبه منهم الاستبداد وما ضيّعه عليهم العابثون والأدعياء.
twitter.com/bahriarfaoui1