إنّ
العلاقات الإريترية- الإثيوبية اتّسمت بعدم الاستقرار عبر
التاريخ، ففي القديم المناطق الإريترية كانت تتعرض للغزوات النهب من الزعماء المسيحيين في شمال إثيوبيا، في محاولة منهم لإخضاعها سياسيا واستغلالها اقتصاديا، ولم تتوقف هذه التهديدات إلاّ بعد دخول إريتريا تحت الاستعمار الإيطالي.
وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، تحولت إدارة إريتريا إلى بريطانيا عام 1941م، والتي كان لها مشروع معد سلفا لتجزئة إريتريا بين السودان وإثيوبيا، بما يلائم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة دون الاكتراث لمطالب السكان في تقرير المصير. وهذه الاستراتيجية تقاطعت مع أطماع إثيوبيا في ضم إريتريا إليها جزئيا أو كليا.
بناء عليه، تحركت إثيوبيا في الخارج لإقناع القوى الدولية والإقليمية، ونشطت في الداخل الإريتري للتأثير فيه وخاصة في القيادات المسيحية الدينية والسياسية لصالح مشروعها، فاستطاعت أن تحقق اختراقات في المسارين. ونتيجة لذلك تشكّل في إريتريا مساران سياسيان على طرفي النقيض، بشأن الرؤية لمصير إريتريا: اتجاه يدعو للاستقلال الفوري بقيادة الرابطة الإسلامية، واتجاه آخر يدعو للانضمام إلى إثيوبيا بقيادة حزب الوحدة. ومما ساعد الاتجاه الأخير آنذاك تعذر وصول الحلفاء واللجنة السياسية للأمم المتحدة إلى اتفاق حول مصير إريتريا، بخلاف الصومال وليبيا.
وكحل وسط تقدمت الولايات المتحدة بمشروع ربط إريتريا بإثيوبيا بنظام فيدرالي كان يرجح مصلحة إثيوبيا أكثر من إريتريا، لكون الأولى حليفة للغرب في المنطقة. والإريتريون قبلوا بالنظام الفيدرالي كأمر واقع ومفروض عليهم وعملوا بما يمكن فعله في إطاره، فرفعوا سقف اختصاصات الحكومة الإريترية في النظام الفيدرالي بخلاف الأقاليم الإثيوبية الأخرى. وإنّ اعتراف إثيوبيا بتلك الاختصاصات والميزات للحكومة الإريترية دون غيرها؛ أعطى القضية الإريترية المسوّغات القانونية التي تثبت أنّ الكيان الإريتري كيان مغاير لإثيوبيا تاريخيا وثقافيا وسياسيا.
أمّا إثيوبيا فكانت ترى في النظام الفيدرالي مسألة وقت فحسب لإلغائه وضم إريتريا إليها كاملة، وهذا ما قامت به عام 1962م، إلاّ أنّ تغوّلها واجه مقاومة شرسة من قبل الشعب الإريتري سياسيا ومدنيا. وعندما وصل النضال السياسي في إريتريا إلى طريق مسدود انتقل الإريتريون إلى مرحلة الثورة لمقاومة الاستعمار، ووظفت الثورة الظروف الموضوعية والسياسية والجماهيرية في تعبئة الجماهير ضد نظام الإمبراطور هيلي سلاسي.
ونمت الثورة الإريترية نموا مطردا حتى بلغت وضعا بالغ القوة والتأثير في المنطقة، وأدخلت النظام الإثيوبية في وحل صراع مستمر الذي قوّض مقوماته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وفي النهاية استطاع الإريتريون أن يهزموا إثيوبيا ويحرّروا بلادهم عام 1991م.
وبعدها استقرت العلاقات بين البلدين إلى أن تفجرت مرة أخرى عام 1998م، بسبب الخلاف في مثلث بادمي، ودخلت الدولتان في حروب طاحنة لعامين وتوقفت بوساطة دولية. ولاحقا حكمت المحكمة الدولية بأحقية بادمي لإريتريا، إلاّ أنّ الجبهة الشعبية لتحرير
التيغراي التي كانت حاكمة لإثيوبيا ماطلت في تنفيذ حكم المحكمة، بل شرعت في تقويض مقومات السيادة الإريترية ومن يمثلها، حكومة ومعارضة على السواء، وخلق أجسام تهدد الكيان الإريتري.
وبعد خروج التيغراي من الحكم تحت ضغط شعبي، تحولت السلطة إلى آبي أحمد الذي أعاد العلاقة مع إريتريا، ولم تكن جبهة تيغراي مرتاحة من ذلك. وعندما بدأت الحرب في التيغراي اتهمت جبهة التيغراي إريتريا بمشاركتها في المعركة وضربت أسمرا بالصواريخ. ومؤخرا تحدثت مصادر أمريكية عن مشاركة إريتريا في الحرب ودعتها لسحب قواتها من التيغراي، بينما نفت ذلك الحكومة الإريترية والإثيوبية على السواء.
وبالنظر إلى سياقات علاقات الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي والجبهة الشعبية الحاكمة في إريتريا على الأقل في خلال العقدين الماضيين، فإنّ كلا منهما كان يرى الآخر مهددا لوجوده. في هذا السياق يمكن فهم ارتياح الحكومة الإريترية من ضرب الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي؛ للتخلص منها أو إضعاف قوتها كعدو لدود لها. وبناء عليه، فإنّ مشاركة إريتريا من عدمها في الحرب الجارية هي تحصيل حاصل.
ويأتي هنا سؤال آخر مهم: هل آبي أحمد وقواه الصلبة من الأمهرا أفضل من التيغراي للتعامل مع إريتريا؟
الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى قراءة الأحداث السابقة والجارية للمجموعتين (الأمهرا والتيغراي) اللّتين حكمتا إثيوبيا بالتوالي، والمقاربات التي استخدمت من الطرفين للتعامل مع إريتريا.
على العموم، هناك أربع مقاربات إثيوبية للتعامل مع إريتريا عبر التاريخ: التدخل المباشر في الشأن الداخلي الإريتري، والعنف المفرط ضد المدنيين الإريتريين وتطبيق سياسة الأرض المحروقة في مرحلة الثورة وفي الحرب الحدود الأخيرة، واستخدام البعد الطائفي، وخلط حاجة إثيوبيا لمنفذ بحري بادعاءات تاريخية غير حقيقية. وبإسقاط هذه المقاربات في الحالتين فقد لا يجد المرء اختلافا بين المجموعتين.
فتخوف الإريتريين من التيغراي تخوف مبرر تسنده حقائق التاريخ القديمة والحديثة، مثل تأثيرهم في التوازن الديمغرافي في إريتريا، ونظرتهم لإريتريا من البعد الطائفي، وضربهم جبهة التحرير الإريترية بالتحالف مع طرف إريتري، إضافة إلى حرب الحدود الأخيرة مع إريتريا، ورفضهم تنفيذ حكم المحكمة الدولية، وفرض الحصار على إريتريا مستخدمين نفوذ الدولة الإثيوبية ودبلوماسيتها العريقة، واحتوائهم المعارضة الإريترية وتفتيتها خلال عشرين عاما الماضية؛ حتى لا تكون البديل المعطل لمشروعها في إريتريا، وتشكيلهم ودعمهم أجساما تنخر في جسد السيادة الإريترية. وكل هذا كان متناسقا مع تصريحات كبار قادة التيغراي التاريخيين تجاه إريتريا خلال العقدين الماضيين. ولكل هذه الأمور وغيرها يصعب أن تكون جبهة التيغراي حليفا استراتيجيا لإريتريا.
في المقابل، إذا أسقطنا تلك المقاربات على حالة آبي أحمد وقواه الصلبة من الأمهرا، واستنادا على إرثهم التاريخي القديم وأحداث الماضي القريب، فإنّ المجموعة الظاهرة في المشهد السياسي الإثيوبي الحالي لا تختلف عن التيغراي في رؤاها لإريتريا، وهذا قد يشكّل مصدر قلق للعلاقات الإريترية- الإثيوبية في المستقبل.
وإنّ الخطوة التي أقدم عليها آبي أحمد في إعادة العلاقات مع إريتريا في الفترة الأخيرة، قد ترجع إلى عوامل الصراع الداخلي، وليس لأهمية العلاقة لذاتها، وبانتفاء العوامل التي تقف وراءها، قد تتراجع العلاقات بين البلدين.
ومن الأمور المقلقة أن كثيرا من أصحاب الرأي في إثيوبيا يعتقدون أنّ إثيوبيا سوف لن تكون قوة إقليمية مؤثرة ما لم يكن لها منفذ بحري، ويدعون تلميحا أو تصريحا لإخضاع إريتريا بشتى الطرق لنفوذها حتى تصل إثيوبيا للبحر الأحمر، الأمر الذي يحتم على الإريتريين متابعة تطوّر هذه العلاقات وتحليلها بالدقة، ومن ثم اتخاذ المواقف طبقا لمصالح إريتريا العليا وليس لمصلحة فرد أو حزب بعينه.
كما أنّ الإريتريين معنيون بإبطال مفعول الصراع مع إثيوبيا، وأساسه حاجة إثيوبيا لمنفذ بحري، وهذا يمكن حله بالوصول مع إثيوبيا إلى اتفاقيات بعيدة المدى؛ مبنية على المنافع المتبادلة مع الحفاظ على السيادة الوطنية الإريترية.