إنّ تطوّرات الأحداث
العسكرية في إثيوبيا منذ بدايتها تميّزت بتسارع تحولات عناصر القوة فيها من طرف
إلى آخر، ففي الجولات الثلاث الماضية، كانت عناصر القوة في اثنتين منها تميل لصالح
الجيش الفيدرالي وحلفائه، وفي واحدة منها لقوات
التيغراي. وتبادل الطرفان التقدم
والتراجع العسكري في ميدان القتال، حتى اقترب كل منهما في بعض الأوقات لحسم
المعركة لصالحه، لكن سرعان ما تتحول منه موازين القوة إلى الطرف الآخر.
وقد يعود ذلك لمعرفة
الأطراف المتحاربة ببعضها البعض، بعبارة أخرى معرفة كل منهما مكامن القوة والضعف
للآخر. ومن هنا يبدو أخيرا أن الطرفين أدركا صعوبة حسم هذا النزاع عسكريا، فجنحا
نحو الحلول السلمية ولو مؤقتا، فأعلن الطرفان في آذار/ مارس الماضي وقف إطلاق
النار والرغبة في التفاوض.
فالحكومة الفيدرالية
توقفت عن التوغل في إقليم التيغراي، خلف قوات التيغراي المنسحبة حينها، مع إطلاق سراح
قيادات التيغراي التاريخيين من السجن مثل سبحت نقا وآخرين، وتشكيل مفوضية الحوار
الوطني. وفي المقابل أعلن رئيس إقليم التيغراي وقف إطلاق النار، والرغبة في
التفاوض مع الحكومة الفيدرالية.
وعلى الرغم من
هذه المؤشرات الإيجابية إلاّ أن عملية تسوية النزاع سياسيا بينهما كانت وما زالت تواجه
تعقيدات وصعوبات معرقلة لتحقيقها. على سبيل المثال، لا الحصر في المعسكرين توجد
قوى غير مستعدة للمساومة والوصول إلى التصالح والحلول الوسطية، كما أنّ أرضية
التفاوض غير معبّدة ويوجد فيها عدم التوازن في امتلاك كروت التفاوض. ومن هذا
المنطلق تأزمت الأوضاع في إثيوبيا مرة أخرى، وقد تجدّدت المواجهة العسكرية بين
الطرفين من الشهر الماضي، وما زالت مستمرة.
ما نسمعه عن الرغبة في التفاوض ما هو إلا لكسب الرأي العام والاستفادة من الزمن لترتيب الأوضاع الداخلية، فإذا صحت هذه الفرضية فإنّ استمرار التأزم في إثيوبيا أمر مرشح، وستكون له آثار سلبية بعيدة المدى في إثيوبيا خاصة وفي منطقة القرن الإفريقي عامة
وقد يعود انفجار الوضع
مؤخرا في إثيوبيا إلى وصول الحلول السلمية إلى طريق مسدود، وتتجه الأمور إلى الحسم
العسكري، وما نسمعه عن الرغبة في التفاوض ما هو إلا لكسب الرأي العام والاستفادة
من الزمن لترتيب الأوضاع الداخلية، فإذا صحت هذه الفرضية فإنّ استمرار التأزم في
إثيوبيا أمر مرشح، وستكون له آثار سلبية بعيدة المدى في إثيوبيا خاصة وفي منطقة
القرن الإفريقي عامة.
وقد تكون أسباب
الحرب الأخيرة من أجل تحسين كروت التفاوض وتحريك ملف التفاوض الذي لم يحرز أي تقدم
خلال الفترة الماضية؛ بسبب تراجع اهتمام القوى الدولية بمشكلة إثيوبيا بعد بروز
الأزمة الأوكرانية.
ويبدو أن قيادة
التيغراي حاولت فك الحصار الخانق عليها منذ عام وفتح الطريق مع السودان حتى يكون للإقليم
منفذ دولي، لكنّها لم تنجح في ذلك، بل هناك أخبار تفيد بتكبد قواتها خسائر كبير في
الأرواح وتراجعا في المكاسب الميدانية لصالح الجيش الفيدرالي وحلفائه. إضافة إلى
ذلك، تعرضت جبهة تحرير التيغراي لإدانات دولية لخرقها الهدنة وتوغلها إلى الأقاليم
الأخرى، ومصادرتها المواد الإغاثية من المنظمات الأممية، الأمر الذي سيتسبب في
تراجع تعاطف المجتمع الدولي مع التيغراي.
ومن أجل إنقاذ ما
يمكن إنقاذه طرحت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي مبادرة وقف إطلاق النار مشروطة،
بانسحاب الجيش الإرتري من الإقليم، وإعادة الخدمات الأساسية في التيغراي والسماح للمنظمات
الإنسانية، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل بدء الحرب في إقليم التيغراي.
وإثر ذلك عيّنت
قيادة التيغراي لجنة للتفاوض مع الحكومة الفيدرالية، وهو ما يعني قبولها وساطة الاتحاد
الأفريقي التي كانت تمانع واسطته في السابق. وقد اجتمع وفدا الحكومة الفيدرالية وإقليم
التيغراي في جيبوتي في الأيام الماضية بوساطة الاتحاد الأفريقي، وقد أعاد وفد جبهة
التيغراي الشروط المذكورة أعلاه كشروط أولية. وإن وفد الحكومة الفيدرالية أيضا طرح
ثلاثة شروط أولية: انسحاب التيغراي من المناطق التي استولوا عليها من إقليم
الأمهرة والعفر، وتسليم جميع نقاط الحدود للحكومة الفيدرالية، وتسليم جميع الأسلحة
الثقيلة للجيش الفيدرالي.
يبدو أن طرفي النزاع أدركا صعوبة حسم المعركة عسكرياً، وفي المقابل فإنّ تسوية النزاع سياسيا بينهما ما زالت بعيدة المنال، خاصة أنّ بعض الشروط المطروحة يصعب الوصول إلى حلول وسطية فيها
ومما سبق يبدو أن
طرفي النزاع أدركا صعوبة حسم المعركة عسكرياً، وفي المقابل فإنّ تسوية النزاع سياسيا
بينهما ما زالت بعيدة المنال، خاصة أنّ بعض الشروط المطروحة يصعب الوصول إلى حلول
وسطية فيها. وعلى سبيل المثال الأراضي المتنازع عليها بين التيغراي والأمهرة في
مناطق حمرة وولقيت وغيرهما، فإن أيّ تنازل من تلك المناطق ستطارده تساؤلات الشعب: لماذا
خاضوا تلك الحروب الطاحنة التي كلفت الغالي والنفيس لينتهي بهم المطاف إلى نقطة البداية؟
فإنّ أي طرف أيضا سيواجه ضغوطات داخلية.
فالحكومة
الفيدرالية ستواجه ضغوطات من حلفائها الذين خاضوا معها الحرب، من الأمهرة والعفر وإرتريا،
كذلك بالنسبة لقيادة التيغراي من جناح الاستقلال في داخلها. أضف إلى ذلك مواجهة
الطرفين تحديات عديدة لتداعيات الحرب، سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
على العموم، يبدو
لكل طرف استراتيجية في هذا التفاوض. فاستراتيجية الحكومة الفيدرالية هي إبقاء التيغراي
مع إثيوبيا الموحدة، ويكون لهم فيها حجمهم الطبيعي في الثروة والسلطة، والذي يمثل
6 في المئة من السكان. أمّا استراتيجية قيادة التيغراي فتبدو أنها تتجه إلى تفاوض مع
الحكومة الفيدرالية للوصول معها إلى اتفاق يضمن استفتاء شعبيا للإقليم لتقرير
مصيره؛ بالبقاء مع إثيوبيا الموحدة أو الاستقلال عنها وفقا للدستور الإثيوبي، على
غرار ما حصل لجنوب السودان.