لقد أحدثت ثورات الربيع العربي وما تلاها من تغييرات سياسية لازالت تعصف بالمنقة العربية والإسلامية، تحولات جوهرية ليس فقط في طبيعة المجتمعات والدول، وإنما أيضا في إعادة تشكيل الوعي الفكري والسياسي والديني.
وإذا كانت ثمانينيات القرن الماضي قد عرفت منتوجا فكريا اتخذ من التراث وإعادة إنتاجه مادة رئيسية للبحث عن سبل نحت الكيان العربي والإسلامي في المستقبل، فإن التغيرات السياسية التي عرفتها المنطقة العربية والإسلامية، منذ أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، وتداعياتها على العالمين العربي والإسلامي، ثم مع التغييرات السياسية الكبرى التي عرفها العالم العربي مع مطلع العقد الثاني من القرن 21، قد جددت السؤال مرة أخرى ليس فقط عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، وإنما أيضا في تجديد سؤال العلاقة بين البيان والبرهان، أو بين العقل والدين.
ولقد كان لافتا للانتباه مع سرعة التحولات التي يعرفها عالم اليوم، وبالتأكيد فالعرب والمسلمون في قلبه، غياب المثقف العربي أو دوره الباهت في تقديم قراءات علمية تشخيصية للواقع واستشرافية للمستقبل، وربما برر بعضهم ذلك بوجود قرار سياسي في دوائر صنع القرار الدولية بتغييب مبيت للمثقف في سياق إعادة ترتيب المشهد الدولي وفق ما يُعرف بـ "سنة التدافع".
وقد تكون وسائل الإعلام، التي تعرف فتوحات غير مسبوقة، قد أدّت دورا كبيرا في إعادة تشكيل الوعي الإنساني وتوجيهه، لكنها في النهاية لا تستطيع تغيير طبيعة التكوين البشري والإنساني وانتمائه لعالمي العقل والروح، أو بلغة الراحل محمد عابد الجابري، العرفان والبرهان.
وبعد تناوله لدور النخبة في مناعة الأمة، يعود الفيلسوف التونسي الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي، للحفر مجددا في مكونات العقل العربي والإسلامي، من خلال قراءته لتراث علمين من أعلام الفكر الفلسفي في التاريخ العربي والإسلامي، ويتعلق الأمر بكل من إرث ابن رشد الفلسفي وابن عربي الصوفي، وهي قراءة تنشرها "عربي21" على حلقات متواصلة كل يوم جمعة.
اللغة والصورة
إذا كان يمكن للغة الطبيعية أن تشارك في المعرفة العلمية والعملية بالصورة التي وصفت كما في الشعر والرواية العاليين وكما في القرآن خاصة، فلا بد من تحديد علة هذه الإمكانية. وعندي أن التعليل مضاعف هنا أيضا:
1 ـ فأولا؛ اللغة الطبيعية حائزة على وظيفة ما بعد الترميز عامة؛ لأنها شرط ترجمته إلى شرط التواصل في الجماعة، ولولا ذلك لاستحال تعليم الأجيال ما يتجاوز، ما يقبل الملاحظة العادية في التجربة العادية. ومن ثم فهي بهذا المعنى لغة ما بعد لكل اللغات بما فيها اللغات العلمية؛ أي إنها شرط التواصل بين المتمكن من لغة العلم الذي يعلمه لغيره وغير المتمكن منها، وشرع في تعلم الاختصاص.
2 ـ واللغة والطبيعية ـ وهذه هي العلة الأهم ـ لا تختلف عن المواد التشكيلية في الفنون عامة، ومعنى ذلك؛ أنها يمكن أن تؤدي دور الرسم ودور الموسيقى، وهما مقوما الشعر الراقي الذي لا يتكلم في الأعيان، بل هو يشبه الرسم المجرد والموسيقى الخالية من الكلام، أي المقصورة على الأصوات بصرف النظر عن دورها اللغوي.
بمعنى أن الصوت فيها يصبح من جنس تصويت أي آلة موسيقية؛ فتجويد القرآن مثال واضح؛ لأنه عند غير العرب، لا يفعل بما فيه من كلام، بل بما فيه من موسيقى فحسب.
ومثلما أن الرسم والموسيقى يمكن أن ينطبقا فيتعينا فيكون الأول رسما للموجود يحاكيه وتكون الثانية تلحينا لنص من اللغة الطبيعية (الغناء). وهذه النسبة لا تختلف عن نسبة الرياضيات للطبيعيات بما فيها من علاقة بالمكان والزمان.
وذروة الاستعمال الأرقى للغة الطبيعية من حيث هي مادة تشكيلية، لا تفيد بدلالاتها المباشرة التي تصبح عناصر الرسم والموسيقى، بل بما يسميه الجرجاني معنى المعنى؛ سواء كان متعلقا بالمقدرات الذهنية النظرية أو بالمقدرات الذهنية العملية.
وهذا الأمر هو ما قصدته في كلامي على العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني. فالشعر المطلق يستعمل اللغة الطبيعية. ولكن ليس بدلالاتها المعتادة، بل بما تنتجه اللغة من معان لا يمكن أن تكون موجودة في الأعيان؛ لأنها من جنس المعاني الرياضية.
ذروة الاستعمال الأرقى للغة الطبيعية من حيث هي مادة تشكيلية لا تفيد بدلالاتها المباشرة التي تصبح عناصر الرسم والموسيقى، بل بما يسميه الجرجاني معنى المعنى، سواء كان متعلقا بالمقدرات الذهنية النظرية أو بالمقدرات الذهنية العملية.
فهي مثلها ليس لها وجود في الأعيان. ولا يمكن أن يكون لها فيها وجود رغم أن تصور الأعيان تصورا علميا مستحيل من دونها. ولنضرب أمثلة بسيطة. فقد يكون مفهوم النقطة والمستقيم وأي معنى رياضي من المعاني التي يستحيل أن توجد في الأعيان.
فالنقطة مثلا تحديد موضع في المكان ليس له أي بعد من أبعاد المكان، ومع ذلك فلا يمكن تصور المكان هندسيا من دونها، ويستحيل أن يطابقها أي رسم لها رغم أنها تعدّ أصل كل المعاني الهندسية، سواء التقليدية في رياضيات إقليدس أو التي تجاوزتها.
فلو أخذنا مركز الدائرة وهو نقطة، وأخرجنا منه شعاعا بقدر معين (قيمة لمتغير)، فإن دورانه في السطح نفسه وثبات المركز، يعطينا دائرة محيطها المتصل مؤلف من عدد لا متناه من النقاط، رغم أن النقطة ليس لها مقدار.
فيحصل محيط متصل ذو مقدار من شيء لا مقدار له ولا متناه. ولو حاولنا أن نرسم مماسا للدائرة، فإنه ليكون مماسا بحق ينبغي ألا يماس إلا نقطة واحدة. وهذا وجوده من رابع المستحيلات في الأعيان.
ولو أخذنا أي معنى شعري حقيقي، فإنه سيكون من جنس النقطة؛ لا يمكن تعيينه رغم أن كل تعيين يشترطه. وذلك يصح على كل المعاني العملية صحة ذاك على كل المعاني النظرية. فالحب العذري مثلا يفترض شرطا في كل حب ليكون جديرا بمعناه، مع العلم أنه لا يمكن أن يتعين تعينا مطابقا.
لكنه ضروري لتصور أي حب صادق، وقس عليه العدل والخير والجمال والجلال. فهذه المعاني كلها من جنس المعاني الرياضية، وإن كانت متعلقة بالتجربة الروحية وليس بالتجربة الطبيعية.
مفهوم المقدرات الذهنية النظرية عند ابن تيمية
هذا المفهوم للمقدرات الذهنية العملية لم يكن موجودا لأني وضعته قياسا على مفهوم المقدرات الذهنية النظرية الذي وضعه ابن تيمية، ولا يمكن تصور المعاني الدينية والتجارب الروحية من دون هذا المفهوم.
فلا يمكن تصور المعاني الكلية المجردة نظرية كانت أو عملية من دون التخلي النهائي كما فعل ابن تيمية عن اعتبار المعاني الكلية مقومات لموضوع العلم. إنه عنده مقومة لتعبيرنا عنها وهي إذن مقومة للغة العلم وليس لموضوعه.
لكن العجيب، هو أن يطبق المعنى نفسه على اللغة الطبيعية من حيث العلاقة بالمراجع الدلالية الخارجية: فهي ليست مقومة للمرجع، بل للمعنى المفهوم من الإشارة إليه بها. لكنها تفقد هذه الخاصية بسبب الاعتقاد في المطابقة بين ما في الأذهان وما في الأعيان، وهو اعتقاد علته العادة عند الناطقين بها.
فما في الأعيان من المفروض أن يكون واحدا، وهو ما لا يطابق تعدد اللغات والألسن. ومن ثم فالمعاني التي تفيدها اللغة الطبيعية ليست من مقومات ما تفيده، بل من عادة الإفادة بين الناطقين بها.
وبهذا المعنى، فاللغة الطبيعية حتى هي تعدّ مرحلة أولى من الوظيفة العلمية للترميز. إنها ترميز لغوي "علمي" بدائي بضمير التوظيف الإصلاحي ما بعد اللغوي أو الرتبة الثانية من اللغة الطبيعة، كما يحصل في لغة النحو أو لغة الصرف للكلام في معرفة "علمية" باللغة نفسها.
وذلك يعني أنها تحاول محاكاة ما تفيده في هذا المستوى الثاني موضوعها، حتى لو كان هو هي ذاتها. وهو ما ينتج ما يسمى بمجالات الدلالة وما بينها من علاقات تشابه وتعالل شرطي الاستعارة والكناية، اللتين توهمان بأن الاشتقاق الصغير والكبير في اللسان يمكن أن يعدّا وكأنهما يحاكيان اشتقاقا صغيرا وكبيرا في ما تحيل عليه اللغة.
فيتوهم العلم البدائي ما يبدو تناظرا بين اللغة التي تعبر بالترميز عن الموضوع وعالم الموضوع الذي يظن مناظرا لعالم الرمز المعبر به عنه. وقد يذهب البعض إلى أن العالم يتحدد باللغة، وأنه لا يوجد طريق للنفاذ إليه من دونها.
وهو من ثم يعد قبلها وليس بعدها، لكأنه هو نظام الترميز الوحيد عند الإنسان. فيكون عالم الأذهان مقدما على عالم الأعيان، ويكون الإنسان متكلما قبل أن يصبح حاسا ومدركا إلا بواسطة الترميز اللساني.
وهذه الرؤية ما تزال سارية حتى في اللغات العلمية التي ترد عالم الأعيان إلى عالم الأذهان، وتنفي تعاليه المتمثل في أن الموجود وخاصة الوجود لا يقبل أي منهما أبدا الرد إلى عبارتنا عنه مهما كانت علمية.
فما نعبر عنه هو ما ننتخبه مما ندركه من عالم الأعيان، الذي لا يمكن أن نستنفد كل أعراضه. وقد نكتشف دائما أعماقا لم نصل إليها بعد، وأعماقا كنا نتصورها حقيقية، وإذا هي سراب علته قصور في أدوات الإدراك.
اقرأ أيضا: في الحاجة للتصوف والفلسفة.. قراءة لإرث ابن رشد وابن عربي
اقرأ أيضا: هل يمكن المفاضلة بين اللغات في الدراسات العلمية؟
اقرأ أيضا: أبو يعرب المرزوقي: عندي أن العلم هو الوحيد الذي يفكر
اقرأ أيضا: أبو يعرب المرزوقي: هذا هو طريق فهم لغة الوجود الكونية
أبو يعرب المرزوقي يشرح نظريتي ابن خلدون وابن تيمية للغة
مفكر تونسي: الخطاب الديني والسياسي السائد ليس حداثيا
أبو يعرب المرزوقي: هذا هو طريق فهم لغة الوجود الكونية