الذي يقلب في صفحات تاريخ الأزهر، وقت أن كان الأزهري ملء السمع والبصر، وملء فؤاد الناس، مهابة وجلالا، ووقوفا لجانب الحق، ضد الظلم كائنا من كان يمثله، يجد عجبا في تاريخ هذه المؤسسة العريقة، التي علق بأذهان الناس في هذه الأيام صورة شائهة عنها، فقد قام الأزهريون بعدة ثورات شعبية، ولكن التاريخ لم يتوقف الوقفة المأمولة حول ثورة شعبية قام بها علماء الأزهر وطلابه، انتصارا للشعب المصري ضد حكامه الظلمة، ونتج عن هذه الثورة وثيقة حقوقية في غاية الروعة.
ففي شهر ذي الحجة سنة 1209هـ ـ الموافق: يونية سنة 1795م، فقد كان محمد بك الألفي قد أسرف في فرض ضرائب على سكان إحدى القرى القريبة من بلبيس عاصمة مديرية الشرقية في ذلك الوقت. وكان للشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر حصة في أرض تلك القرية، فاستغاث به أهلها.
واتصل الشيخ الشرقاوي بالأميرين إبراهيم بك ومراد بك لوقف هذه المظالم. ولكن أعرض كل من هذين الأميرين عن الاستجابة لطلب الشيخ، وثارت ثائرته، وعزم على القيام بحركة شعبية يهتز لها ـ في تقديره ـ مركز هذين الطاغيتين، فذهب إلى الجامع الأزهر واستعان بعلماء الأزهر، فجمعوا المشايخ، وقفلوا أبواب الجامع، وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت.
وثاني يوم اجتمعوا والعامة، وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات، وقد بلغ إبراهيم بك اجتماع الناس في بيت السادات، وأرسلوا إليه: أنهم يريدون العدل، ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث والمكوسات، التي ابتدعتموها وأحدثتموها.
فرفض في بادئ الأمر، ثم ضغط العلماء والعامة بتجمعاتهم، وإضرابهم عن العمل، وتعطل معظم مرافق الحياة، فاضطر الباشا ومراد بك إلى النزول على رغبة ومطالب العلماء والشعب، والتي أسفر عنها وثيقة صلح بين حاكمي مصر والشعب، مثل الشعب فيها: علماء الأزهر، ومثل الحكم: مماليك مصر.
قام الأزهريون بعدة ثورات شعبية، ولكن التاريخ لم يتوقف الوقفة المأمولة حول ثورة شعبية قام بها علماء الأزهر وطلابه، انتصارا للشعب المصري ضد حكامه الظلمة، ونتج عن هذه الثورة وثيقة حقوقية في غاية الروعة.
وقد تناولت بنود الوثيقة معظم المصالح والحقوق العامة والخاصة للشعب المصري، والأمة الإسلامية، سواء في ما يتعلق بعلاقة الشعب بحكامه، أو بعلاقة حكامه بمقدسات المسلمين، والعلاقة مع أعداء الأمة الإسلامية، وقد دلت صياغة الوثيقة على وعي علماء الأزهر السياسي، ونضج تفكيرهم في قضايا الأمة، وشأنها العام الداخلي والخارجي.
وكانت بنود الوثيقة كالآتي:
1 ـ تعهد الأمراء بصرف المرتبات والجوامك، والجرايات، والعلوفات لأربابها طلبة العلم، والمنقطعين للعبادة، والمرابطين، والمتقاعدين، والمرضى، واليتامى، والمساكين، والأرامل، وسائر المستحقين من المسلمين.
2 ـ تعهد الأمراء بإعداد كل ما يتعلق بركب الحج وتسييره كل عام على الصفة التي كان عليها في زمن السلاطين السابقين.
3 ـ تعهد الأمراء بإرسال غلال الحرمين الشريفين وأموالهما المقررة كل عام إلى أهلهما في المواعيد المقررة بدون إبطاء.
4 ـ تعهد الأمراء بتسليم الغلال الأميرية المستحقة للشُّوَن الأميرية في مواعيدها المقررة بدون إبطاء.
5 ـ تعهد الأمراء بإلغاء جميع المظالم، والتفاريد، والكاشفيات، والمكوس الجارية في البنادر والموارد والمقررة على كل المآكل وإزالتها بالكلية.
6 ـ تعهد الأمراء بإزالة ما فرضه إسماعيل بك شيخ مصر المتوفى من مظالم إزالة كلية.
7 ـ تعهد الأمراء بعدم فرض مظالم جديدة زيادة على ما هو مسجل في دفتر الأمير محمد بك أبي الذهب المتوفى.
8 ـ تعهد الأمراء بكف أيدي أغاواتهم وكشافهم عن أخذ أموال الناس وأمتعتهم بالباطل، وعن المظالم التي دمروا بها القرى والبلدان وأفقروا أهلها.
9 ـ تعهد الأمراء بصرف المرتبات والجرايات المستحقة لطلبة العلم والعلماء والفقهاء وقُرَّاء القرآن بالأزهر.
10 ـ تعهد الأمراء بإجراء النفقات المتسحقة للجامع الأزهر وأروقته كتجديد ما يحدث بحوائطه من خلل، وتجديد فرشه، وفرش أروقته وكإجراء المياه والإنارة به، وكأجر الخدم، وكتزويد المطبه بما يلزمه من مأكولات.
11 ـ تعهد الأمراء بترحيل الغليونجية (البحارة) الذين أقامهم إسماعيل بك شيخ مصر المتوفى في سواحل بولاق لكف أذاهم عن الأهالي.
12 ـ تعهد الأمراء بعدم التعرض لأشراف مصر بأي وجه من الوجوه لأن جميع أحوالهم وما قد ينشب بينهم من خلافات تنتهي إلى نقيبهم.
13 ـ تعهد الأمراء بعدم التعرض لنواب الشريعة الإسلامية وعدولها (القضاة) أو التدخل في أعمالهم بأي وجه من الوجوه، لأن جميع أمورهم وأحوالهم تنتهي إلى قاضي قضاة مصر.
14 ـ تعهد الأمراء بتعمير السواقي السبع التي تدفع بماء النيل في مجرى العيون، وإدارتها أمام حضرة الوزير (الباشا والي مصر)، وحضرات العلماء، لينتفع بمياهها أهل القلعة والمسلمون القاطنون حولها.
15 ـ تعهد الأمراء بعدم بيع شيء من غلال مصر إلى الكفار أعداء الدولة العثمانية.
16 ـ تعهد الأمراء بمنع كل مظملة من المظالم عن عباد الله الآن، وفيما يُستقبل من الزمان.
17 ـ أعلن الأمراء أنهم تابوا عما اقترفوه من المظالم، وتعهدوا بالسمع والطاعة، وعدم مخالفة الجماعة، وأنهم سيسيرون في الناس سيرة حسنة، وسشحذون هممهم لتنفيذ ما اشترطه العلماء عليهم.
اختلفت وجهات نظر الدارسين حول هذه الوثيقة، فمعظم الكتاب والمؤرخين الذين تعرضوا لها أشادوا بها، وبالحقوق التي نصت عليها، فقد قال عنها الأستاذ عباس محمود العقاد: ولو أنها كتبت في بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها مع كتب القوم في علوم السياسة الحديثة، بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب، أو الدستور الأكبر، أو (الماجنا كارتا).
تم الاتفاق في هذا المجلس على أن من أخل من الأمراء ببنود هذا الصلح، أو توقف عن صرف الحقوق إلى أربابها، أو سعى في إبطال شيء منها، فإن سادتنا العلماء وأرباب السجاجيد، والأمراء يستخلصون منه هذه الحقوق، ويرفعون يده عنها، مهما كان منصبه عملا بالفرمان الصادر من والي مصر صالح باشا القيصرلي.
وقد وقع الأميران الكبيران إبراهيم بك شيخ مصر، ومراد بك على هذه الوثيقة وختماها بخاتميهما، واعتمدها والي مصر صالح باشا القيصر لي، وأصدر معها فرمانا، كما وقع عليها قاضي قضاة مصر، وعدول محكمة الباب العالي، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 1209هـ ـ يونيو 1795م.
وقد وردت هذه الوثيقة وثورة الأزهر الشعبية، في تاريخ الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) (2/390، 389)، وقد اعتمدنا في نصوص الوثيقة على الصيغة التي صاغها بها الدكتور عبد الجواد صابر إسماعيل في كتابه: دور الأزهر السياسي في مصر إبان الحكم العثماني ص: 158-160. كما وردت الوثيقة في كتاب: الريف المصري في القرن الثامن عشر للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ص: 288-292. وهي نقلا عن سجل الديوان العالي رقم (2) ص: 300.
ويلاحظ هنا أن الوثيقة كانت ثمرة لثورة شعبية، قام بها شيوخ الأزهر وطلبته، رفضا منهم لظلم الشعب، وقد خلت الوثيقة من أي حق شخصي، بل قدموا الحق العام على الخاص، فلا نجد ذكرا لأي حق خاص، رغم أن المظالم طالت أراضي بعض العلماء الكبار.
وقد اختلفت وجهات نظر الدارسين حول هذه الوثيقة، فمعظم الكتاب والمؤرخين الذين تعرضوا لها أشادوا بها، وبالحقوق التي نصت عليها، فقد قال عنها الأستاذ عباس محمود العقاد: ولو أنها كتبت في بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها مع كتب القوم في علوم السياسة الحديثة، بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب، أو الدستور الأكبر، أو (الماجنا كارتا).
والمتأمل في الوثيقة يجدها قد تناولت معظم الحقوق الدستورية والمالية والسياسة الداخلية والخارجية، بما في ذلك استقلال القضاء، وعدم تدخل العسكر في الإدارة المدنية، كما أنها ألزمت حكام العسكر لمصر آنذاك قطع كل تعامل اقتصادي مع أعداء الأمة الإسلامية، ممثلة آنذاك في الخلافة العثمانية.
ما يعيب هذه الثورة الشعبية، هو نفس ما يعيب ثوراتنا الشعبية العربية، أنها لم تصنع مؤسسات قوية تحميها، وتمنع السلطة من التغول، أو النظام الفاسد من العودة مرة أخرى.
وهذه الوثيقة تحتاج لتعريف الأمة بها، ولإعادة قراءتها قراءة سياسية لمضامينها، ونصوصها، وتحليل هذه المضامين، مقارنة بزمانهم وثقافتهم، ومقارنة بأداء مشايخ الأزهر الآن، والمؤسسات الدينية بوجه عام.
Essamt74@hotmail.com
هل تتحول ليبيا من ساحة تصارع إلى ساحة تقارب بين القاهرة وأنقرة؟