في واحد من أسوأ الأحداث التي شهدتها الولايات المتّحدة على الإطلاق، قام أنصار الرئيس ترامب قبل أيام فقط بـ اقتحام مبنى الكابيتول الذي يحمل رمزية مهمة لكونه واحداً من أهم أوجه الديمقراطية في البلاد. أدّى ذلك إلى حالة من الفوضى وسقط نتيجة الاقتحام أربعة قتلى وبدا يوماً أسود لمئات الملايين من الأمريكيين.
وبالرغم من ذلك، فلا يزال هناك من يعتقد أنّ الولايات المتّحدة بخير وأنّ ما جرى قبل أيام هو مجرّد سحابة صيف عابرة وأنّ واشنطن لا تزال قويّة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وأنّ الديمقراطية الأمريكية راسخة. مثل هذا الانطباع لا يقتصر على أصوات أمريكية فقط، بل إن هناك من يعتقد بمثل ذلك أيضاً خارج الولايات المتّحدة.
لطالما أنكر بعض المحللين التراجع الحاصل في قوة ودور ووضع الولايات المتّحدة على مستوى العالم معتبرين أنّ هذا التراجع ليس حتمياً وأنّ الولايات المتّحدة لا تزال تقود العالم. لكن هل الولايات المتّحدة كذلك، أم إنّ هناك من يريد أن يخلط بين الوقائع والأماني؟
الديمقراطية مهمّشة
في حقيقة الأمر، الولايات المتّحدة في تراجع منذ هجمات ١١ أيلول (سبتمبر) وإعلانها الحرب على الإرهاب في العام ٢٠٠١. لهذا التراجع معالم وأشكال عديدة، وهو في تزايد مستمر منذ عهد الرئيس بوش الابن مروراً بالرئيس أوباما وليس انتهاءً بترامب. وفي مطالعة لهذه السلسلة، يبدو أنّ صعود كل رئيس كان بمثابة ردّ فعل على سياسات الرئيس السابق، وهو ما يعني أنّ عدم القدرة على كسر هذه السلسة سيزيد من وضع الولايات المتّحدة سوءاً بغض النظر عن الفريق الذي ينتمي إليه الرئيس الأمريكي.
الديمقراطية الأمريكية مهشّمة، وحقيقة أنّ ترامب وصل إلى الرئاسة هو خير دليل على ذلك. ترامب ليس شخصاً يمثّل نفسه فقط، وبالرغم من خسارته الانتخابات فقد صوّت له أكثر من ٧٢ مليون أمريكي. هذا الرقم لم يحصل عليه أي رئيس أمريكي في أي من الانتخابات السابقة. تردّي مستوى الديمقراطية الأمريكية ليس أمراً جديداً. الحديث اليوم في الديمقراطية الأمريكية يرتبط بالحديث عن احتمال حصول فراغ في السلطة، وضرورة تأمين انتقال سلمي للسلطة، وضرورة استعادة الشرعية، وعزل الرئيس ترامب أو تنحيته أو دفعه للاستقالة أو حتى محاسبته بعد خروجه من السلطة، وتقييد قدرته على استخدام الأسلحة النووية، وإمكانية أن يمنح الرئيس نفسه عفواً رئاسياً!
الحلم الأمريكي آخذ بالتحوّل إلى كابوس، ويبدو أنّ الكثير من الأمريكيين يفتقرون الى فطنة تصوّر أنفسهم في وضع سيء او متراجع، وهو ما يمنعهم حقيقة من تدارك وضعهم وإلتقاط انفساهم للعودة من جديد.
على المستوى الحزبي حيث يقوم النظام الأمريكي على ثنائية حزبية، يتآكل الحزب الجمهوري بشكل سريع وليس هناك قيادات شعبية بين صفوفه. ترامب القادم من الخارج يعتبر صاحب الشعبية الأكبر بين قادته وبفارق ضخم عن أقرب منافسيه. ولذلك، فإن هناك من يشكك ببقاء الحزب ويعتبر أنّه تحوّل مع رئاسة ترامب إلى حزب ترامبي يتّجه باتجاه أقصى اليمين، وأنّ ترامب كان ينوي العودة مجدداً في الانتخابات القادمة.
وفي المقابل، فإنّ الحزب الديمقراطي عاجز هو الآخر عن إفراز قيادات وازنة شابة، ولذلك فقد استعان في الانتخابات التي أجريت مؤخراً ببايدن، وهو مرشّح كبير في السن، سبق له أن تولى منصب نائب الرئيس، واضطر إلى توظيف الرئيس السابق أوباما للحصول على دعم عملي في حملته الانتخابية. هذا الحزب يذهب بشكل متزايد باتجاه اليسار هو الآخر. رئيسه لا يمتلك القدرة على متابعة ملفات الولايات المتّحدة وقد لا يكمل السنوات الأربع القادمة نظراً لعمره ومشاكله الصحّية.
لقد احتاج بايدن إلى كل هؤلاء بالإضافة إلى فيروس كورونا للفوز على ترامب في انتخابات أثارت شكوكاً كبيرة حول طريقة عملها والخروقات التي شابتها. هناك تصوّر بأنّ ترامب جاء إلى الحكم نتيجة لسياسات أوباما، وبالتالي فإنّ استنساخ هذه السياسات من قبل إدارة بايدن قد يولّد من هو أسوأ من ترامب مستقبلاً.
لم تعد قائدة للعالم
التراجع في مستوى الديمقراطية والحياة الحزبية الأمريكية يأتي مترافقاً مع عنصرين أساسيّين: الأوّل، انقسام اجتماعي عميق يتّسع يوماً بعد يوم ويتمحور حول قيم ومعطيات جوهرية وليس حول قضايا ثانوية. أمّا الأمر الثاني، فهو تراجع قدرات الولايات المتّحدة الأمريكية من الناحية الاقتصادية بشكل سريع. يقابل هذا التراجع، تقدّم الصين بشكل هائل باتجاه سد الفجوة مع واشنطن، مع احتمال أن يتجاوز الاقتصاد الصيني حجم نظيره الأمريكي خلال سنوات قليلة فقط.
حتى في المجالات التي لطالما تميّزت واشنطن بها كالتكنولوجيا، تتخلّف الولايات المتّحدة اليوم أمام بكّين لاسيما في تطوير تكنولوجيا شبكات (5G) التي تعتبر المدخل للسيطرة على الفضاء المعلوماتي في المستقبل. وأمام كل هذه التحدّيات الداخلية تتشّتت واشنطن في مواجهة التحدّيات الخارجية بين روسيا والصين وإيران والإرهاب وحلفائها الذين لا تريدهم أن يختطّوا سياسات مستقلّة عنها.
الولايات المتّحدة تتراجع على المستوى الدولي ولم تعد قائدة العالم في الكثير من القضايا، وهذه حقيقة لا يبدو أنّ هناك تغييراً سيطرأ عليها في أي وقت قريب، لاسيما إذا بقيت على نفس المسار. الحلم الأمريكي آخذ بالتحوّل إلى كابوس، ويبدو أنّ الكثير من الأمريكيين يفتقرون إلى فطنة تصوّر أنفسهم في وضع سيئ أو متراجع، وهو ما يمنعهم حقيقة من تدارك وضعهم والتقاط أنفاسهم للعودة من جديد. علينا أن لا نستبعد سيناريو تدهور الوضع الأمريكي في أي مرحلة من المراحل مستقبلاً، لأنّ الكابوس هناك لن يبقى هناك في حال حصوله حينها.