هل أحرق ترامب نفسه.. أم أحرقته الدولة العميقة؟!

لا شك في أن مشهد اقتحام مبنى الكونغرس في واشنطن من قِبل أنصار الرئيس "دونالد ترامب"، والتي شهدها العالم كله على الهواء مباشرة، يُعد مشهداً غريباً وغير مسبوق في الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر وأقوى دولة في العالم، دولة المؤسسات وسيادة القانون وقلعة الديمقراطية، والتي دفعت الساسة والإعلاميين الأمريكان ليتندروا على حالهم بالقول: "هل أصبحنا دولة من العالم الثالث؟!"، وكأنهم يرثون الديمقراطية في بلادهم.

نعم هذا المشهد الغوغائي الذي شهدته واشنطن قد أصاب العالم بالذهول؛ مشهد تسلق المتظاهرين جدران مبنى الكابيتول، مركز مجلسي النواب والشيوخ، قدس أقداس الديمقراطية في أمريكا! وما حدث داخل الكونغرس، من عمليات تخريب ونهب لمحتوياته وأثاثه، واقتحام مكتب رئيسة مجلس النواب "نانسي بيلوسي"، لا يحدث إلا في العالم الثالث، الذي يغير حكامه بالانقلابات العسكرية، وليس عبر صندوق الاقتراع..

ولكن من صنع هذا العالم الثالث، ومن أدخل الانقلابات العسكرية إليه كوسيلة للتخلص من الطغاة، بل من جاء بهؤلاء الطغاة المستبدلين ليحكموا شعوبهم بالحديد والنار؟!

هذه الأسئلة كان يجب على هؤلاء المتحدثين الأمريكان أن يطرحوها على أنفسهم، قبل أن يعايرونا بها، ويترفعون عن أن تكون أمريكا قد نزلت إلى هذا الدرك الأسفل!

أليست أمريكا هي التي صنعت العالم الثالث، ومنعته من الصعود لعالمها الأول؟!

أمريكا التي لم تتحمل طاغية مجنونا جاء عبر صندوق الاقتراع أكثر من أربع سنوات؛ فرضت على شعوب العالم الثالث حكاما طغاة عقوداً من الأزمنة، ليسلم كل طاغية البارود لطاغية جديد، لتعيش الشعوب في قهر وظلم مستمرين، بمباركة أمريكية..

أمريكا التي وقفت ضد إرادة وحرية الشعوب، ليس من حقها أن تهيننا وتسخر من عالمنا، بل من حقنا أن نشمت في سيدة العالم ونقول لها بضاعتكم ردت إليكم! ومع ذلك، فلقد شعرنا بالمهانة حقاً، إذ أصبحنا عبرة لدى الشعوب الحرة!

ورغم رداءة المشهد تكتيكاً وإخراجاً، إلا أنه لم يكن انقلاباً بالمعنى المفهوم، بل انفلاتاً تمت السيطرة عليه سريعاً، واستمرت العملية الديمقراطية كما كان مقرراً لها، فلم يتدخل الجيش، لأن الجيش في البلاد الديمقراطية لا يتدخل في السياسة، ولا يقوم بانقلابات عسكرية، فوظيفته الحفاظ على الدستور..

وكان لافتا للنظر أيضا عدم تدخل الجهات الأمنية المختلفة بحزم مع أنصار "ترامب"، وهذا يطرح عدة تساؤلات: لماذا لم تتعامل قوات الأمن بحزم وقوة مع المتظاهرين، كما حدث إبان مظاهرات السود العام الماضي، بعد مقتل "جورج فلويد" خنقا تحت ركبة شرطي أبيض؟! وإذا افترضنا جدلاً أن أولئك الذين اقتحموا مبنى الكونغرس من السود، هل كانت الشرطة ستتحفظ معهم كما تحفظت في استعمال القوة ضد هؤلاء المقتحمين البيض؟ وهل كان عدد القتلى سيقتصر على خمسة فقط؟! ولقد أظهرت بعض الصور المتداولة رجل أمن يلتقط صورة (سيلفي) مع أحد المتظاهرين، كما اكتشفوا اشتراك عدد من ضباط الشرطة العاملين في عدد من الولايات في عملية الاقتحام!!

وهذا ما اعتبره الناشطون، في حركة "حياة السود مهمة" انحيازا من الأجهزة الأمنية لصالح المتظاهرين المؤيدين لترامب، وهو ما يفسر دخولهم بسهولة إلى مقرات الكونغرس. كما ذكّروا بالقرارات الصارمة التي اتخذها ترامب ضد مناصري الحركة المناهضة للعنصرية، وطرحوا نفس تساؤلنا: ما الذي كان سيحدث لو أنهم هم من قاموا باجتياح الكونغرس؟!

لقد كان الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات، وجميع الأجهزة في الدولة على علم تام بنيّة أنصار "ترامب" بالتوجه لمبنى الكونغرس، يوم الأربعاء، لمنعه من التصديق على نتائج الانتخابات، وإعلان فوز "جو بايدن". فقد أصدر الجيش مذكرة سرية حمراء، تتحسب لاشتباكات مسلحة يقوم ترامب بتحريض منفذيها للقيام بتمرد داخل العاصمة واشنطن، قبل "أربعاء الغوغاء"، ومع ذلك لم تتخذ الاحتياطات ولم تؤمن قلعة الديمقراطية في أمريكا!

ولا بد للمرء هنا أن يتساءل: هل كان هذا التراخي والتسيب من قِبل أجهزة الأمن، متعمداً ومحسوباً، لإحراق آخر ورقة في يد "ترامب"، على قاعدة "دعه يخطئ"، لإظهاره بهذه الصورة المسيئة أمام العالم؛ رئيساً يريد أن يهدم كل القيم والمبادئ التي قامت على أساسها الإمبراطورية الأمريكية، ويسعى لإشعال الحرب الأهلية في البلاد انتصاراً لنفسه؟!

لقد سلطت الكاميرات على صور بعينها، منها رفع علم الولايات الانفصالية خلال الحرب الأهلية الأمريكية، ورفع العلم الصهيوني، وجلوس المتظاهرين في مكتب رئيسة مجلس النواب "نانسي بيلوسي"، والعبث في محتوياته، والعبارات التي كتبت على أحد الأبواب "اقتلوا الإعلام".. كل هذه إشارات أو رسائل تدعو للحرب الأهلية، ومناصرة الكيان الصهيوني، والحط من شأن الديمقراطية، والنيل من الإعلام الذي يعاديه ترامب ويهاجمه بصفة دائمة طوال فترة حكمه..

ولا بد من الأخذ في الاعتبار أيضا أن النظام ومؤسساته، الذي سمح بهذه المشاهد الغوغائية وتعمد الإعلام الأمريكي إبرازها ونشرها على نطاق واسع، هو أيضا ذات النظام الذي أنهاها سلمياً وبسرعة فائقة!

أم أن نرجسية "ترامب" المفرطة وغطرسته وغروره وتطرفه وتهوره، هي ما دفعته لتحريض أنصاره على فعل هذا العمل الجنوني، وساقته لهذا المصير المخزي، بحرق نفسه؟!

"ترامب" حتى هذه اللحظة يشكك في نتائج الانتخابات، ويعتبر نفسه الفائز، وهو الذي حصل على أصوات 75 مليون ناخب، بزيادة ستة ملايين صوت عما حصل عليها في انتخابات 2016. وهو بالفعل عدد كبير وغير مسبوق، والغالبية العظمى هم من ذوي البشرة البيضاء، أو ما يطلق عليهم السكان البيض (الأنجلوسكونيون)، الذين يكنون الكراهية والاحتقار للسود والأجناس الأخرى، فهم يؤمنون إيماناً منقطع النظير بتفوق العرق الأبيض، وأن أمريكا لهم وحدهم، ولا يستوي معهم ذوو الأعراق الأخرى من السود والملونين الذين لا يحق لهم المطالبة بأي حقوق، فهم عبيد وخدم لهم فقط..

هذه العنصرية البغيضة، والنزعة الفاشية، نمّاها "ترامب" منذ حملته الانتخابية الأولى عام 2016، والتي رفع فيها شعار "فلنرجع أمريكا عظيمة مجدداً"، وأجج في وقودها طوال السنوات الأربع الماضية، فترة حكمه، مما زاد الحالة الشعبوية في الولايات المتحدة، حتى أصبحت حالة "ترامبية" عامة، ذات اتجاه أيديولوجي فاشي، أحدثت شرخاً عميقاً في بنيان المجتمع الأمريكي، يؤهله للسقوط في براثن الحرب الأهلية عند تصادم الطرفين، وخاصة أن السكان البيض يملكون مليشيات مسلحة، يدعمها ترامب. وما غزوة الكونغرس إلا إرهاصات، وإذا لم ينتبه العقلاء في الفريقين إلى خطورة هذا المنزلق، ويرمموا الشرخ الذي أحدثه "ترامب"، فستقع أمريكا في المحظور، قريباً أو بعيداً، وقد عبر عن ذلك الكثير من الساسة الأمريكان العقلاء..

وحسب ما ذكرته شبكة "سي إن إن"، فقد أوقف المحققون الفيدراليون شاحنة محملة بالأسلحة والمتفجرات، قبل اقتحام الكونغرس، وقد تبين أن الرجل الذي كان يقودها من ولاية "ألاباما" قد أخبر معارفه بأنه ينوي اغتيال رئيسة مجلس النواب "نانسي بيلوسي" أو دهسها..

تخيل معي عزيزي القارئ، لو لم يوقفوه واستطاع الهرب بطريقة ما، ونفذ جريمته، ماذا كان سيحدث في الولايات المتحدة؟!

لا يزال ترامب يتحدث لجمهوره العريض بنفس اللغة الشعبوية، ففي بيانه الأخير الذي نشره على صفحته في فيسبوك، بعد تصديق الكونغرس على نتائج الانتخابات وإعلان فوز "جو بايدن"، كتب: "إنني أختلف كليا مع نتيجة الانتخابات والحقائق ظاهرة بالنسبة لي". وتابع: "قلت دائما إننا سنستمر بقتالنا لضمان أن الأصوات القانونية فقط سيتم احتسابها، في الوقت الذي يمثل هذا نهاية أعظم فترة في تاريخ الرئاسة، هذه هي البداية فقط في قتالنا لجعل أمريكا عظيمة مجدداً".

إذن لقد أعلن "ترامب" الحرب، أيا كانت شكل الحرب التي سيخوضها، ولا أعتقد أنه سيخوضها سلمياً بالقانون في المحاكم، فقد خسر هو وأنصاره كل القضايا التي رفعوها، وهو كمضارب لا يقبل أبداً بالخسارة، لهذا لن يستسلم رغم هزيمته. وكلامه هذا موجه إلى القوى الداعمة له، وهي قوى ناشطة وجاهزة للرهان عليها، وستظل مؤثرة ومهددة لوحدة الولايات المتحدة الأمريكية..

لهذا السبب أغلق موقع "تويتر" حساب "ترامب" نهائياً بسبب خطر حدوث المزيد من التحريض على العنف، ولفت المسؤولون عن الموقع إلى أنه بدأت بالفعل خطط للاحتجاجات المسلحة المستقبلية في الانتشار على المنصة وخارجها، بما في ذلك هجوم آخر على مبنى الكابيتول في 17 كانون الثاني/ يناير الجاري، أي قبل يوم التنصيب..

لقد فقد "ترامب" عقله تماماً، وبدأ يتصرف كالثور الهائج، يريد الإطاحة بكل ما حوله. فقد نشرت "واشنطن بوست" تسجيلاً صوتياً لمحادثة تليفونية بينه وبين "براد رافيسنبرجر"، سكرتير ولاية جورجيا الجمهوري، يحثه على تسجيل أصوات إضافية لحسابه في الانتخابات ليفوز بها، ولكن الرجل رفض، ما جعل ترامب يسبه ويهدده بجريمة فيدرالية يمكن أن يتهمه بها، لكن "رافيسنبرجر"، لم يتزحزح عن موقفه ورفض نهائياً التزوير..

يشعر "ترامب" بأن كل من حوله خانوه، ولم يقفوا بجانبه، لذلك هاجم نائبه "مايك بنس"، لأنه رفض استخدام موقعه كرئيس لمجلس الشيوخ بحكم الدستور، لعرقلة تنصيب الرئيس الفائز، كما هاجم قضاة المحكمة العليا، لأنها لم تستجب لطلباته وتمنع وصول خصمه "بايدن"، رغم أنه عمل على مدى السنوات الماضية على زيادة عدد المحافظين المؤيدين له في المحكمة.

"ترامب"، الذي رفع شعار "فلنرجع أمريكا عظيمة مجدداً"، هو ذاته الذي وجه أكبر الضربات الموجعة لصورة الولايات المتحدة الأمريكية كدولة ديمقراطية!

وسواء أكان "ترامب" قد أحرق نفسه، أو أحرقته الدولة العميقة، ففي كلتا الحالتين تواجه الولايات المتحدة أوقاتا عصيبة، قد يكون لها تأثير وتداعيات على العالم أجمع..

twitter.com/amiraaboelfetou