ليبيا.. خاطر حرَّكه قراءة أخبار التوافق

راودني خاطر، وانا أتابع الأخبار اليوم، يتعلق بخيارات وقرارات النخبة السياسية وتلك التي تسير في ركابها وتدعمها في توجهات هدامة ثبت في السابق أنها كذلك وما تزال التجارب تؤكد أنها مدمرة، ولو فكر هؤلاء بقليل من الرشد والحكمة لوفرنا على ليبيا والليبيين دماء عزيزة وأموالا طائلة كان يمكن أن تخرج البلد من واقعه السيء.

شجون التوافق

جاء هذا الخاطر وأنا أقرأ خبر قرب إتمام ميزانية موحدة بعد الانقسام الذي استمر زهاء ست سنوات، ولقد كلف ازدواج النفقات والإيرادات البلاد ما الله أعلم بثقله، ولقد عدنا إلى المربع الأول بعد نزق وعبث أدخل البلاد في وضع خطير وغير مسبوق منذ استقلالها.

وكذا التئام مجلس إدارة المصرف المركزي، الذي انقسم على نفسه إلى مصرفين، وصار لكل منهما سلطاته وقراراته التي الله أعلم بما راكمته من تركة سيحملها المواطن على ظهره الواهن لسنوات.

ومثلهما الاتفاقات الأمنية والعسكرية للجنة 5+5، والتي كان من ثمراتها وقف إطلاق النار، النار التي أحرقت أحياء كثيرة وكبيرة في الشرق والجنوب والغرب، وأضافت إلى قوائم الثكالى والأرامل والايتام ألافا مؤلفة.

النخبة وكوارث البلاد

الطغاة حالمون، وطغيانهم الحالم لا يضع اعتبارا للروح البشرية والخسائر المادية، ويظلون يطاردون أحلامهم في الحكم وتعطشهم للسلطة مسترخصين في سبيل ذلك كل شيء، لكن ما بال النخبة المثقفة التي تكونت فكريا على مبادئ الحرية والتعددية والديمقراطية كسبيل وحيد لتجاوز الازمات وتثبيت الاستقرار وتحقيق الانتقال الديمقراطي والتحول التنموي؟!

وما أدري كيف تبرر لهم أنفسهم أن يتنقلوا من موقف متشدد ويحرضون على الحرب، التي أطلقها مستبدون لمأرب خاصة، ثم إذا أراد "الأوركسترا" يلقون بشعارات القتال بعيدا ويحملون غصن السلام، دون خجل ولا وخز ضمير. ما بالهم بعد أن تفننوا في وصف الخصم بأبشع الأوصاف، إذا بهم يضعون أيديهم في يديه ويتبادلون الابتسامات وربما الاحضان ليتفقوا على ما لو اتفقوا عليه قبل سنوات لما عانى المواطن ولا وهن الوطن.

ليست التوافقات السياسية أو التفاهمات الاقتصادية والاجراءات الامنية وحدها ضامن لعدم العودة إلى النزاع والحروب، وإنما الرشد والحكمة والوعي ومخافة الله في كل ما نقول ونفعل.

وأنظر معي إلى سياق الأحداث منذ العام 2013م، بداية من إغلاق النفط الذي كان كارثي، من قبل غر بأجندة لا منطق فيها ولا صلاح، إلا إن رموزا وأعيانا ومثقفين تورطوا في مجاراة الغر في عبثه، بل صار بعضهم وزراء في حكومته؟؟!!

وتأمل في عملية الكرامة وردة الفعل عليها بفجر ليبيا والانقسام الذي امتد من السياسي إلى الاقتصادي فالجهوي والاجتماعي، واستدعاء التاريخ بغباء وجهل وتحريف ليؤجج ضغينة وكراهية بين الشرق والغرب، الله أعلم بما خلفته من قطيعة.

لتأتي قاصمة الظهر، الحرب على العاصمة، ويهوي في منزلقها شريحة كبيرة من النخبة الفكرية والسياسية والمهنيون الكبار، أغلبهم جهر بمساندته للعدوان، والباقون تحدثت قلوبهم بالنصرة وإن لم تنطق بها ألسنتهم.

ولو أنهم حكموا العقل، والتزموا بما صدعوا به رؤوس الليبيين من رفض الحروب والتنديد بجرائم غرور والمطار وغيرها، لكان الوضع مغايرا، لكنهم صمتوا عن جرائم أكبر وفظائع أعظم، ثم هم اليوم يخرجون إلى السطح بالرايات البيضاء ودعوات لم الشمل، دون أن يتغير شيء مما ساندوا الحرب لأجله، وأعني هنا القضاء على الإرهابيين والمليشيات...الخ.

ألم يكن هذا هو الموقف المبدئي الذي لو اصطف خلفه كل أو جل النخبة منذ 2013م لوفرنا على أنفسنا وعلى ليبيا والليبيين القتل والدمار وهدر مئات المليارات ؟!

لست اليوم أمقت ما وقع من صلح أو اتفاق، ولا أصب الملح على الجراح الغائرة، وأن تصل متأخرا أفضل من أن لا تصل أبدا، غير أنه يعز عليَّ أن نمر بهذه الانحرافات دون أن نقف عليها للاعتبار، ونجعلها "حلقة في الأذن" حتى لا تتكرر ونكون، مرة أخرى، مطية لنزق أو عابث جديد يخرج علينا من ظلام الليل الذي ما يزال حالكا، فليست التوافقات السياسية أو التفاهمات الاقتصادية والاجراءات الامنية وحدها ضامن لعدم العودة إلى النزاع والحروب، وإنما الرشد والحكمة والوعي ومخافة الله في كل ما نقول ونفعل.