إن القضية الفَلسطينية لهي مأساة العرب والمسلمين المستعرة وإحدى أمهات القضايا عند أحرار العالم وحرائره. وحسبنا هنا أن نسترجع بعض تواريخها ومنعطفاتها في حرم هيئة الأمم المتحدة، حتى نرى ونوقن كيف تنبني "الشرعية الدولية" على منطق القوة والأمر الواقع من جهة، وعلى ازدواجية المكاييل والمقاييس من جهة ثانية.
فقبيل إنشاء دولة إسرائيل على "ذكريات توراتية" (بتعبير المستشرق الراحل جاك بيرك) وبالغصب والإرهاب مشخصين في جماعتي إرﮔـون وهاﮔـانا (ومن زعمائها عهذاك منحيم بيگين)، كان القرار الأممي 181 (29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947) قد تبنى مشروع تقسيم فلسطين، الخاضعة إذ ذاك للانتداب البريطاني، إلى دولتين: واحدة يهودية والأخرى فلسطينية (تضم الجليل الأعلى والضفة الغربية والقدس بشطريها وغزة).
أما اليوم، فقد ذهب ذلك القرار أدراج الرياح، وخلفه القرار 242 الذي لا يتحدث إلّا عن وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967، فصار أفق التحركات السياسية كلها لفض "النزاع العربي ـ الإسرائيلي" محدودا بهذا القرار الأخير ولا شيء غيره، حتى بعد أن تغيّر رقمه إلى 338 غداة حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973؛ بل لقد تناقص مضمونه حول وضع مدينة القدس في اتفاقية أوسلو (13 أيلول / سبتمبر 1993)، التي صار بُعيدها أرييل شارون، مخطط مذبحة صبرا وشتيلا، يعلن مرارا أنها لاغية.
ورغم فظاعة الحيف التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، فإن "الشرعية الدولية" ظلت عاجزة عن تطبيق حتى قراراتها الدنيا المستصدرة منذ ما يزيد عن نصف قرن مضى على نكبة 1967. وهكذا بات الفلسطينيون، على مرّ السنين وتناوب حزبي الليكود والعمل وحلفائهم الدينيين الغلاة المتنفذين، يعانون من تبعات ذلك الظلم الفادح المسلط على حياتهم وأرواحهم وأراضيهم.
أما أمريكا، فإنها مازالت حتى اليوم وأكثر من الأمس عاجزة عن إعادة النظر الجذرية في سياستها الشرق ـ أوسطية، القائمة على تحيز مطلق لدولة إسرائيل وعلى سوء تقدير متواتر للقضية الفلسطينية، وكذلك لرمزية مدينة القدس الدينية والتاريخية في وجدان كل المسلمين. وإن تلك السياسة قد تأدت بالجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، وإن بفوارق غير دالة، إلى خدمة تلك الدولة منذ نشأتها بشتى أنواع الدعم، بما فيها استعمال الڤيتو الأمريكي في مجلس الأمن يفوق ستّا وثلاثين مرة من 1948 إلى عهدنا هذا، حتى أضحت إسرائيل وكأنها عضو سري ضمن أعضاء هذا المجلس الدائمين، بل الولاية الأمريكية الواحدة والخمسين. وهناك تقرير للبنتاغون يقر أن استعمال الڤيتو هو من أهم الركائز التي تحفظ لأمريكا مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
والواقع أن هذه العلاقة العضوية بين الدولتين هي التي تقبِّحُ صورة القوة العظمى في العالم العربي والإسلامي، مع أن لها القدرة، ولو في حدود، على ردع ربيبتها وترشيدها، كما فعلت ذلك في فترات زمنية متباعدة: 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر في ولاية أيزنهاور؛ 1981: حؤول إدارة ريغان دون دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت؛ 1991 منع إدارة بوش الأب إسرائيل من الرد على صواريخ سكود العراقية في حرب الخليج الثانية، ولعل أول مؤشر "إيجابي" أعاد في حينه بعض الأمل هو تصريح بوش ذاك غير المسبوق أمريكيا حول حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وضرورة تطبيق القرارات الأممية في الشأن ذاته، وردّد هذا التصريح أيضا توني بلير، متبنيا إياه، وذلك بعد الضربة الموجعة الفادحة من طرف جهاديي تنظيم القاعدة في 11 أيلول/سبتمبر 2011.
أمريكا مازالت حتى اليوم وأكثر من الأمس عاجزة عن إعادة النظر الجذرية في سياستها الشرق ـ أوسطية، القائمة على تحيز مطلق لدولة إسرائيل وعلى سوء تقدير متواتر للقضية الفلسطينية، وكذلك لرمزية مدينة القدس الدينية والتاريخية في وجدان كل المسلمين.
ويبقى أن الترجمات الفعلية المحسوسة لذلك كله هي اليوم المطلوبة على وجه الأسبقية والاستعجال، ولو أن الغالب على المشهد أمام أعيننا هو تعطيلها المستمر على نحو ممنهج، بسبب سياسة شنِّ حروب ومذابح جماعية متلاحقة بأسماء شتى من طرف الدولة العبرية ضد الشعب الفلسطيني وقياداته، ولن تكون آخر فصولها حرب الدرع الواقي على غزة صيف 2014.
وهكذا فحتى حَلُّ الدولتين الذي صادق عليه مجلس الأمن بالإجماع، (عدا صوت سوريا!)، في 13 آذار (مارس) 2002، فقد ذهب هو أيضا أدراج رياح عاتية. وهذه السياسة المتمردة منذ عقود على كل قرارت هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والقائمة على إرهابية شاملةِ التسلح برّا وجوا وبحرا، هي التي تغذي راديكالية كل من يرى، فلسطينيا وعربيا، أن الصراع ضد إسرائيل تاريخيٌّ مصيري، وأنه الوجه الآخر لصراع العرب ضد تأخرهم وتمزقاتهم المهيضة.
إن عملية السلام، حسب الكلمة المستهلكة، التي وضعت مبادئها اتفاقيات أسلو الآنفة الذكر وأكدتها خارطة الطريق من بعد، يظهر أنها في حالة تلاشٍ متقدم، هذا علاوة على كونها لم تحظ منذ البدء بتزكية حماس ووجوه من النخبة الفلسطينية (أبرزهم إدوارد سعيد وعزمي بشارة وعبد الباري عطوان) وذلك، في نظرهم، لِما اعتورها من اختلالات تفاوضية (من إحداها حق العودة لفلسطينيي 1948)، وكلها تبعدها عن أن تكون أساسا لسلام عادلٍ وحقيقيٍّ مستدام.
وكيف لنا أن نقول بغير هذا والحكم في إسرائيل، إلى أي حزب أو ائتلاف آل، يتمادى في سن سياسة عدوانية مستميتةٍ كاسحة ضد الفلسطينيين وأمكنة الذاكرة الإسلامية وضد مقومات السلام: توسيع المستعمرات في الضفة الغربية، اغتصاب أراضي شاسعة في شرق المدينة المقدسة، تهويد مدينة القدس بقصد تنصيبها "عاصمة إسرائيل الأبدية"، وذلك عملا بالنصيحة المستهترة لمؤسس الدولة الصهيونية داڤيد بن ﮔـريون: "علينا أن نتوسع ونحتل مبتسمين"؛ هذا علاوة على بناء نفق تحت الحرم الإبراهيمي، وأوراش وحفريات في محيط المسجد الأقصى، وغيرها من الإجراءات والتدابير التي تنزع إلى تثبيت الصراع في ميدان ديني بالغ الحساسية، من طبيعته أن يعبئ مجموع العالم الإسلامي (ملياري نسمة) وحتى أطيافا مسيحية، سيما وأن الدولة العبرية ما زالت متشبثة بديانتها كدعامة مؤسسة لكيانها.
إن إسرائيل متجبرة متغطرسة، ظلت مدعومة بالحبل السُّري الذي ما انفك يربطها عضويا بسياسة أمريكا الرسمية الراسخة؛ كل هذا الحيف الفظيع ومشتقاته قد تمخض عنه بروز جيل مقاومة جديد جُبل على العنف المضاد، درعا ووسيلة، جيل يسعى بجد وتفانٍ إلى تنمية قدراته الذاتية في التمكن ما استطاع من أسباب القوة الرادعة الواعدة ومن التقنيات القتالية المتطورة، كما من تكنولوجيات التواصل الحديثة وطرائق السياسة النافعة الفاعلة.
وإنَّ كسْب معارك دالة ضد الدولة الصهيونية، كما يرى هذا الجيل، ومعه شرائح عريضة من الشعوب العربية وغيرها، هو من المؤشرات الحاسمة على عودة الهيبة والكرامة وروح الاتحاد المحصِّن والمنتج إلى أمتنا ودولنا ونخبنا وشبابنا، ومن هؤلاء الشباب من توفقوا في منع جزَّارِ قانا شمعون بيريز من حضور ملتقى مؤسسة بيل كلينتون المنعقد في 5 ـ 7 ـ 1997 بمراكش، وكان قد دُعي إليه بصفات عدة، منها ـ يا للمفارقة الممضة! ـ حصوله على جائزة نوبل للسلام واعتباره من فئة "الحمائم" بين ساسة إسرائيل وأركان جيشها.
إن فلسطين بقدسها وحرميها الشريفين لن تكون أبدا للبيع في سوق النخاسة أو ما ماثله، وهذا بقرار لا رجعة فيه من الشعوب العربية والإسلامية ومن قادة أبرار جديرين بأن يكونوا قدوة للشباب ومرجعا، نذكر منهم على سبيل المثال فقط عبد الحميد الثاني السلطان العثماني الملقب -افتراء-بالأحمر، الذي رفض رفضا قاطعا بيع فلسطين لليهود بالرغم من ضائقة خزينته المالية وقتذاك، وبالشهيد الملك فيصل بن عبد العزيز والشيخ زايد بن سلطان والشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح والزعيم جمال عبد الناصر وغيرهم، تغمدهم الله جميعا بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته.
إنَّ كسْب معارك دالة ضد الدولة الصهيونية، كما يرى هذا الجيل، ومعه شرائح عريضة من الشعوب العربية وغيرها، هو من المؤشرات الحاسمة على عودة الهيبة والكرامة وروح الاتحاد المحصِّن والمنتج إلى أمتنا ودولنا ونخبنا وشبابنا،
مع ولاية دونالد ترامب المنتهية وتمادي إسرائيل في سوء معاملة الفلسطينيين والعبث بحقوقهم، نرى قضيتهم تزداد مأساويةً واستعارا، ومجالهم الحيوي ضيقا وضنكا، وذلك بسبب استماتة إسرائيل في ضم أراضيهم وتوسيع المستعمرات ضدا عليهم وعلى القوانين والقرارات الدولية. وها هو نيتنياهو يوغل في تنفيذ ذلك، مضيفا أقصى العنف والشراسة في استرخاص أرواح شباب فلسطين في أثناء مسيرات العودة، وفي الاستهتار بكل القوانين الدولية والقيم الإنسانية.
إن السياسة الأمريكية حيال القضية الفلسطينية تأدت في المحصلة بالجمهوريين والديمقراطيين، مع بعض الفوارق العرضية أو الطفيفة، إلى خدمة الدولة الإسرائيلية منذ نشأتها في 1948. ومنها قرار ترامب الإنجيلي حتى النخاع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس الغربية، واعترافه بالقدس كلها عاصمة لإسرائيل الأبدية، حسب تعبير الصهاينة بجميع أطيافهم.
إن الغالب على المشهد اليوم أكثر من ذي قبل، هو التعطيل المستمر لحل الدولتين، وذلك بسبب سياسة الحرب المستدامة المتبعة من طرف الدولة العبرية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته. وبالرغم من مرور سبعة عقود على القضية الفلسطينية، فإن الأمل معقود على جيل المقاومين الجدد وجاهزية العالم العربي والإسلامي في اكتساب أسباب القوة والمناعة الذاتية وتعديل ميزان القوى لصالحه، مما يستلزم بالضرورة رص الصف الفلسطيني رصا منيعا، وتوحيده وتمكينه من السلاحين المادي والروحي.
فإسرائيل، كما نعلم، تتوفر وحدها في منطقة الشرق الأوسط كله على القنبلة النووية ذات المئتي وخمسين رأسا (فيما يُمنع على إيران تخصيب الأورانيوم ولو لغاية سلمية)، كما أن إسرائيل أعلنت الديانة اليهودية ورسَّمتها ركنا ركينا في بنية دولتها. وعليه، إذا لم يتحقق ذلك الشرط الوجودي ذو البعدين العسكري والمعنوي، فإن ما يسمى "صفقة القرن" بل صفعة العار والخزي التي روجت لها إدارة ترامب من قبل، ما هي إلا أكذوبة بلقاء وفخ للإيقاع بالقضية الفلسطينية واغتيال حقوق الفلسطينيين في العودة وإقامة دولتهم على أرضهم قبل حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وهذا ما عاكسته باستماتة وشراسة سياسة إدارة ترامب، التي شجعت إسرائيل على توسيع مستعمراتها، وحتى على أن تكون لها مطامع ترابية في الضفة الغربية وفي ضم غور الأردن وشمال البحر الميت.
وللإشارة، فإن ترامب، هذا الحيوان الجشع، قالت عنه نانسي بيلوسي الديمقراطية رئيسة الگونغرس إنه خليق بأن يزج به في السجن. ولعمري إن هذا لرجاء غالبية ساكنة المعمور الحر، عدا قاعدته الناخبة التي ستبقى بعده والمكونة من الفلاحين ورعاة البقر الجهلة، وأشتات من الطبقات الوسطى ومن شريحة رجال المال والأعمال من طينته، هذا علاوة على حركة الإنجيليين البالغة الغلو، إذ تنشر بقوة الدعاية الكثيفة والتمويل الفائض عقيدة اليهود شعب الله المختار، وأن أرضهم الموعودة تمتد من النيل إلى الفرات.
وفي خضم هذا الوضع المأساوي، يعاني الفلسطينيون من عذاب شديد تؤجج نيرانه قوة أمريكا العظمى، وحتى نيران بعض الدول "الشقيقة" التي شاركت في "ورشة المنامة" المذلة المستهترة وتلهث اليوم وراء تطبيع مجانيٍّ مع إسرائيل، التي تحدده على مقاسها وبشروطها الضاغطة القسرية، ولن يعود على المستسلمين التُّبع إلا بحصة المغبون وبالويل والثبور من طرف جماهير الشعوب.
فهل سينحو الرئيس الديمقراطي الجديد يوسف بايدن سياسة مغايرة لفظائع وحماقات سلفه، فيتوخى إصلاح ما أفسده ويطبعُ أمريكا إبان عهدته بقيم الإنصاف والأنسنة؟ لننتظر كيما نرى على المديين القصير والمتوسط وانكشاف المقاصد والنيات وما تجبل به الأحداث وتفرزه وتنشئه.
"الحرم الإبراهيمي".. تاريخ رابع الأماكن المقدسة عند المسلمين
محطات في حياة الشاعر محمود عبد الحليم العنبتاوي
سياسي مصري لـ "عربي21": هكذا تشكلت فلسطين في أذهاننا