يتعرض الفلسطينيون في الداخل المحتل عام 1948 لتحديات كبيرة تستهدف وجودهم، وسط عنصرية ممنهجة وحاضرة في تصريحات الساسة ووسائل الإعلام، فضلا عن المؤسسات التعليمية.
ويثير كل ذلك تساؤلات حول انعكاسات الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها فلسطينيو 48، على مستوى الهوية، وصولا إلى التوجهات والممارسات، في مجتمع يعاني بالفعل جراء الاحتلال.
ورغم الدعاية الكثيفة التي يبثها الاحتلال بشأن "ديمقراطيته"، إلا أن العديد من التقارير الدولية والحقوقية تحدثت عن ممارسات عنصرية ممنهجة في وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية.
وسبق أن أقرت الأمم المتحدة بالعنصرية المتجذرة لدى "إسرائيل"، والنابعة عن الفكرة التي قامت عليها. فقد اعتبر قرار صادر عام 1975 أن "الصهيونية (بذاتها) شكل من أشكال العنصرية والتمييز"، وهو ما تم سحبه مطلع التسعينيات بعد اشتراط الاحتلال ذلك للمشاركة في "عملية السلام".
لكن التأثيرات العميقة للمارسات الممنهجة والمتأصلة في العقلية الإسرائيلية على الأجيال الفلسطينية المتعاقبة تبقى المعضلة الأكبر، مع تساؤلات عن سبل المقاومة والحفاظ على الثقة بالهوية والوجود التاريخي والحضاري.
وفي حديث لـ"عربي21"، أكد البروفيسور "أمل جمال"، مدير فرع الاتصال السياسي في قسم العلوم السياسية بجامعة تل أبيب، وجود تأثيرات كبيرة للسردية العنصرية في الإعلام العبري على الأجيال، مشددا على ضرورة العمل على "خلق النموذج" في مواجهة مساعي كسر الذات الفلسطينية، وتعزيز العمل الجماعي وتجاوز الخلافات الداخلية.
مستويات التأثير
وقال جمال، الذي أصدر العديد من الأبحاث والدراسات حول سياسات الإعلام والديمقراطية والحقوق المدنية: "منذ بداية الحركة الصهيونية وحتى الآن، هناك محاولات متجذرة ومبرمجة من قبل الإعلام الإسرائيلي للتأثير على الوعي الفلسطيني في الداخل عبر آليات مختلفة، سواء على مستوى المعلومات أو التحليل".
وأوضح: "المعلومات التي
يتم بثها عادة ما تخدم الرؤية الإسرائيلية، على سبيل المثال، تتم تغطية الجوانب السلبية فقط في المجتمع العربي الفلسطيني في الإعلام الإسرائيلي، أما النجاحات
والتطورات الإيجابية فلا يتم الاعتناء بها كاملة أو بتاتا".
وأضاف: "هذا يعني أن ضخ
المعلومات السلبية له هدف في صياغة الوعي الإسرائيلي اليهودي بأن المجتمع العربي
متخلف ومصدر تهديد للأمن".
لكن ذلك يستهدف في الوقت ذاته، بحسب جمال، "أن يصقل الوعي العربي بالدونية والنقص وأن يمثل له المجتمع اليهودي كمجتمع يصبو إليه أو يمثل له نموذجا للاحتذاء به".
المستوى الآخر في التأثير الإعلامي الإسرائيلي، بحسب جمال، هو التحليل، "وهو ينبع من رؤية صهيونية للواقع دائما، بعبارة أخرى من معنا ومن ضدنا هو إرث إعلامي متجذر في الواقع الإسرائيلي".
وتابع: "كل الصحافة والإعلام في إسرائيل تفسر الواقع، خاصة فيما يتعلق بالفلسطينيين في الداخل، بما يمس أو يخدم المجتمع الإسرائيلي اليهودي، كل الوقت، بمعنى أن الحدث هو إما إيجابي، أي أنه يخدم المجتمع الإسرائيلي اليهودي، أو سلبي، بمعنى أنه لا يخدمه".
الانعكاسات.. والفئة الأضعف
وعملية الفرز هذه، بحسبه، "من شأنها أن تقدم سردية أو سيرة واضحة متكاملة مبنية على تراتب وأولويات قاطعة واضحة فيها الأسبقية للمجتمع اليهودي الإسرائيلي وفيها الخضوع أو الاستثناء للمجتمع العربي الفلسطيني".
ويؤكد جمال أن لهذا "ارتدادات واضحة على المجتمع الفلسطيني، فهو يشكل وعيا لدى المجتمع الإسرائيلي اليهودي، ولكنه أيضا يشكل جزءا من الوعي على الأقل عن المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل".
اقرأ أيضا: كاتب إسرائيلي: نعيش بدولة أبارتايد وسخيف وصفها بالديمقراطية
وأضاف: "هناك تباينات في الانعكاسات على الأرض، سواء على مستوى الطبقات أو التعليم أو مكان الإقامة، الواضح أن هنالك تأثيرا، إذ لدينا انكشاف للمجتمع العربي على الإعلام العبري، ومن لا يهتم بمقارنة المعلومات التي يتلقاها من الإعلام العبري مع ما تبثه وسائل الإعلام العربية فهو يتصور بأنها حقيقة، وبأن التفسيرات والتحليل والصياغة طبيعية وصحيحة، وهو ما يؤثر على السلوك اليوم وعلى العقائد والإيمان والممارسة السياسية".
واستدرك بالقول: "لكن علينا أن نأخذ بالاعتبار بأن الشرائح الأكثر تأثرا هي تلك الأقل وعيا وتعليما وثقافة والأضعف اجتماعيا واقتصاديا. بعبارة أخرى، النخب الاقتصادية والثقافية والمتعلمة لا تتأثر كثيرا، وهي وإن انكشفت على الإعلام العبري فهي تحاول أن ترى ما يقال عنها للتصدى له، ولتحاول تقديم رؤية أخرى".
"ليست مؤامرة بل عقلية"
ورفض جمال وصف ما يتعرض له الفلسطينيون في الإعلام العبري بأنه "مؤامرة"، مشددا على كون تلك الممارسات نابعة من "تربية".
وأوضح أن العنصرية المتجذرة في فكرة الاحتلال دفعت الكيان الناشئ بعد 1948 إلى السيطرة على جميع وسائل الإعلام، وتحديد مضامين الناطق بالعربية منها، فيما انعكست عقلية الاحتلال على وسائل الإعلام، فضلا عن مختلف المؤسسات ووسائل التأثير.
وبالعودة في الحديث إلى التأثير، ينبّه "جمال" بأن جزءا من المجتمع العربي، خاصة من جيل الشباب، متأثر بدون شك، "لكن مع مرور الوقت، فإن عنصرية المجتمع الإسرئيلي لا تفسح المجال أمام الفلسطيني إلا أن يشعر كفلسطيني، وأن يشعر بالتمييز".
اقرأ أيضا: MEE: إسرائيل تخسر معركة إخفاء صفتها كنظام فصل عنصري
وبالتالي "فإن كل تأثير الإعلام هذا يصطدم بحائط هو أن الشباب العربي الفلسطيني لا يمكن أن يندمج في المجتمع الإسرائيلي بشكل كامل بسبب العنصرية والاختلاف الثقافي والرؤية السياسية، وكل هذا يساهم في خلق الحالة المركبة لفلسطينيي الداخل".
وبالإشارة إلى تلك "العقلية"، ووفق تقرير صادر عن "المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي"، عام 2019، فقد شهدت وسائل تواصل الاجتماعي الإسرائيلية، خلال عام 2018، منشورا ضد الفلسطينيين "كل 66 ثانية"، فيما بلغ مجموع عدد الدعوات لممارسة العنف والعنصرية ضدهم 474 ألفا و250، وهو ما يشمل جميع الفلسطينيين، في أراضي 48 وخارجها.
ماذا عن "التعليم" ؟
وفي التعليم، يظهر التأثير على الوعي بشكل أكبر، خاصة في الجامعات، بحسب الأكاديمي المطلع على المشهد عن قرب.
وبحسب "جمال"، ففي التعليم الابتدائي، هنالك قطاع عربي منفصل، ولذلك لا يوجد تأثير كبير، ولكن "توجد حدود للهوية الفلسطينية، ولإمكانية التوعية بالتاريخ والثقافة إلا في حدود ما هو مقبول إسرائيليا".
ويضيف: "أما الجامعات فهي تدرس بالعبري بمناهج إسرائيلية، تضع إسرائيل في مركز العالم، وبالتالي فإن الطلاب يتأثرون بالتجربة بدون شك".
ولكن مجددا، يؤكد جمال، فإن "هذه النخبة المثقفة، حتى وإن تأثرت في المراحل الأولية، فإن التجربة اليومية، في نهاية الأمر، وسياسات التمييز والعنصرية، جميعها عوامل تؤدي إلى تطور وعي فلسطيني، لأن التمييز ضدهم يتم بناء على الهوية وليس عبثا".
تزوير التاريخ
وفي حديث لـ"عربي21"، قال الصحفي والناشط إن "إسرائيل ولا تزال عبر أذرعها التعليمية والإعلامية إلى تفتيت الذاكرة لدى الأجيال كافة من فلسطينيي48، وسلب هويتهم ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي".
وأضاف أن "مناهج الدراسة التي يتلقاها الطفل الفلسطيني منذ بداية مشوراه التعليمي هي مناهج مسمومة ومشوهة ومزورة للتاريخ وروح القضية، ويتم تعويد الطفل بادئ الأمر من خلال المناهج على أن الإسرائيلي هو جزء من مجتمعه بعيدا عن كل القضايا الأخرى، بل إن الطفل يشاهد في أول يوم يزور فيه المدرسة علم إسرائيل يرفرف فوق صفوفها وفي ساحاتها وهذا أمر إجباري لا نقاش فيه لدى السلطات".
كما تعد دروس "المدنيات"، وفق خيري، من أهم الدروس التي لا غنى عنها بالنسبة للاحتلال، "ويذكر في هذا السياق أن كتاب المدنيات الذي يوزع على العرب يأتي تحت عنوان أن تكون مواطنا في إسرائيل، يتحدث عن قوانينها ورموزها وسياستها".
وأضاف: "ولعل الأخطر هي كتب التاريخ الذي تظهر زعماء المنظمة الصهيونية على أنهم أبطال فيما تهمل بشكل قاطع أي رمز فلسطيني بل إنها تنكر أي علاقة بين هذا الطفل الفلسطيني والشعب الفلسطيني نفسه بشكل مخز".
وتستمر هذه المعناة، وفق خيري، حتى الجامعة، وفيها أيضا "تمارس العنصرية ضد الطلاب العرب، كمنع بناء المساجد التي لم يسمح بها ببعض الجامعات إلا بعد معارك قضائية طويلة الأمد، إضافة إلى الدروس التي يمعنون فيها بتزوير الرواية التاريخية.
"غلاف ثقافي"
ويستدرك خيري بالقول: "لكن يتوجب أن نشير إلى أن هذه السياسة كلها لا يبدو أنها تؤتي أكلها إلا مع نزر يسير من الناس ذلك أن الشعب الفلسطيني بالداخل استطاع تكوين غلاف ثقافي وديني ووطني واق ضد السياسة الإسرائيلية على مر السنين من خلال الأحزاب الوطنية والدينية، والمؤسسات التربوية، والأهم في إطار العائلة".
ويضيف: "كما أن هذا الطفل نفسه يشاهد على أرض الواقع شيئا معاكسا لما قرأ عنه في مناهج الدراسة إذ يرتطم أول بلوغه بالعنصرية الإسرائيلية".
ويستشهد خيري بالقبول للتعليم الحامعي، على سبيل المثال، مرورا بملفات معيشية أخرى، من تراخيص البناء وملكية الأرض والمسكن، وفرص العمل، وغيرها، "وسرعان ما يكتشف الحقيقة التي لا تغطيها كتب مزورة".
وسائل التصدي
وفي سياق الحديث عن سبل مواجهة الضغوط التي تتعرض لها الهوية الفلسطينية في الداخل، شدد "جمال" على أهمية دور النخبة السياسية والثقافية في التوعية، ولا سيما "عبر توفير نموذج يومي ليحتذى به في التعامل مع هذا الواقع المركب".
كما أكد جمال أهمية التنظيم المدني والسياسي الحزبي من أهم المتطلبات لمواجهة هذا الواقع.
ورغم تحقق العديد من الإنجازات في هذا السياق، إلا أنه شدد على ضرورة فعل المزيد، وخاصة على مستوى مقاومة "سياسة فرق تسد" المستخدمة من قبل الاحتلال.
وقال: "البنية الإسرائيلية تضيق على العرب، وبالتالي التنافس الداخلي يزيد بشكل كبير. فهذا المجتمع ركيك اقتصاديا، ومحدد جغرافيا، وبالتالي فإن منسوب التنافس يرتفع، وهو ما يهدد بالاندثار، وهذا انعكاس لسياسة فرق تسد وتفكيك المجتمع العربي من الداخل وتعزيز الاحتراب الداخلي على رقعة ضيقة من الموارد والأرض".
وأضاف: "التصدي لهذا جزء مهم من نشاط النخبة الثقافية والسياسية ضد هذا الواقع المركب، ويوجد نجاح معين، ولكنه ليس كافيا".
تقارير صادمة
رغم توقيع الاحتلال على اتفاقية مناهضة التمييز في التعليم، عام 1961، إلا أن الممارسة الفظيعة حاضرة بقوة وفق عدة تقارير حقوقية، فضلا عن حضور العنصرية بالمناهج الدراسية ذاتها.
وبحسب تقرير صادر عن منظمة "هيومان رايتس ووتش"، عام 2001، فإن المدارس اليهودية تتمتع باهتمام وإنفاق كبيرين مقارنة بالمدارس العربية التابعة لحكومة الاحتلال.
ووفق التقرير: "يحصل الأطفال العرب الفلسطينيون على تعليم أدنى من تعليم الأطفال اليهود، ويعكس هذا الأداء الضعيف نسبيا في المدارس".
وأظهرت دراسة أجريت عام 2009 من كلية التربية في الجامعة العبرية أن ميزانية وزارة التعليم بحكومة الاحتلال لتقديم مساعدة خاصة للطلاب من خلفيات اجتماعية واقتصادية منخفضة تميز "بشدة" ضد الفلسطينيين.
وبحسب لجنة متابعة التعليم العربي، فإن حكومة الاحتلال تنفق ما معدله 192 دولارا سنويا على كل طالب عربي، مقابل 1100 دولار لكل طالب يهودي، وهو ما ينعكس في التباين بتجهيز الفصول الدراسية والمواد التعليمية.
وردا على المطالبات الأممي بإنها التمييز العنصري في قطاع التعليم، اعتبر الاحتلال أن للفلسطينيين الحق بتسجيل أطفالهم بالمدارس اليهودية، وهو ما وصف بـ"الابتزازي".
وعلى مستوى المناهج الدراسية، تصف نوريت بيليد الحنان، أستاذة اللغة والتربية في الجامعة العبرية بالقدس، تصوير العرب في مناهج الاحتلال بأنه "عنصري"، وتقول إن تمثيلهم الوحيد هو أنهم "لاجئون ومزارعون بدائيون وإرهابيون".
وشددت "الحنان" حضور ذلك بقوة في "مئات ومئات" من الكتب الدراسية، ولا توجد صورة واحدة تصور عربيا على أنه "شخص عادي".