صُنّفت تونس ضمن الدول الحرة وفق تقرير منظمة فريديم هاوس لمؤشر الحريات العام لسنة 2020. وضُمّت إلى قائمة الديمقراطيات الكبرى برصيد مقداره 70% واحتلت المكانة المرموقة عربيّا وحلت لبنان ثانية بنسبة 44%. وتم ذلك بناء على رصد مظاهر الممارسة الديمقراطية للحكم ومراقبة سير العمليات الانتخابية ومدى تحقق التعددية السياسية وكفالة حرية التعبير والاعتقاد وحرية المرأة ونسبة التمدرس واحترام الحقوق الفردية وحقوق المنظمات المدنية. فبمقتضى هذه المؤشرات تصنف الدول إلى حرة وحرة جزئيا وغير حرة.
المفارقة هنا أنّ البلدين يعيشان غيابا مفجعا للاستقرار السياسي ويواجهان أزمتين متشابهتين قوامهما عمل حكومي معطل يكتفي بتسيير الأعمال نتيجة لعجز السياسيين على تجاوز خلافاتهم وإعلام منقسم لا ينفك يجيّش الرأي العام لصالح من يدفع أكثر واقتصاد عليل على شفا الإفلاس وغليان في الشارع نتيجة لفقدانه الثقة في النخب السياسية. فتدفعنا هذه المفارقة العجيبة إلى التحقق من عوامل التشابه الغريب بين المسار السياسي هنا وهناك والبحث في أسبابه الهيكلية ومآلاته الممكنة.
1 ـ النظام السياسي متعدد الرؤوس طريقا إلى الانقسام المجتمعي
اختارت لبنان النظام البرلماني الذي يمنح الرئيس دورا شرفيا بعد تجربة الحرب الأهلية المدمرة. وأراد مهندسو اتفاق الطائف تحقيق التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في البلاد والمباعدة بين عوامل النفوذ حتى لا تحتكره طائفة دون أخرى حذر العودة إلى مربع العنف والاقتتال الأهلي. ولكن قيامه على محاصصة طائفية توزّع المقاعد وفقا للديانات والمذاهب خلق ديمقراطية هجينة لا مثيل لها في أي من أنحاء العالم. فهي في الآن نفسه تمثيلية ـ نيابية ولكنها متعددة الرؤوس بحيث تسند رئاسة الجمهورية إلى الطائفة المسيحية ورئاسة الحكومة إلى الطائفة السنية ورئاسة مجلس النواب إلى الطائفة الشيعية.
وبدل أن يحقق هذا النظام التوازن المفقود كرّس دكتاتورية الطائفة وهيمنتها على قطاعات بعينها وعلوية ممثليها على القانون والمحاسبة. ومنح ما بات يعرف بـ"الثلث المعطل" المعارضةَ القدرة على ليّ ذراع الطبقة الحاكمة. وانتهى إلى تواطؤ ضمني ضد القانون وضد المحاسبة القضائية وفرّط في مصالح البلاد والعباد لفائدة النخب السياسية.
ولعل تعثر تشكيل الحكومة اليوم رغم عطب مختلف دواليب الدولة وانتفاضة الشارع لتدهور أوضاعه المعيشية خير دليل على إفلاس هذا النظام السياسي وانهماك قادته في الدفاع عن مكاسبهم الشخصية.
ولتونس بدورها جرحها السياسي الذي دفع المجلس الدستوري سنة 2014 إلى غلق الباب أمام استئثار فرد معيّن أو جهة ما على نظام الحكم والحيلولة دون أسباب "التغوّل". فقد عانت أيام بن علي من الديكتاتورية ومن الرّجل الواحد الذي يمسك بكل السلطات ويهيمن هيمنة مطلقة على السلطتين التشريعية والقضائية ويحوّل الحكم إلى شأن أسري في ظل غياب كليّ للرقابة. ومن ثمة اعتمدت نظاما برلمانيا في عمقه فتمثل الحكومة، مركز ثقل السلطة التنفيذية وأضافت إليه بعض خصائص النظام الرئاسي. ووُصف بالمختلط وقتها وبأنه "الأنسب لتونس" وبكونه حصيلة "أفضل دستور في العالم"، وبات يوصف اليوم بالهجين الفاقد للهوية.
وجاء النظام الانتخابي معقدا بدوره. فلم يعتمد نظام العتبة الذي يقصي الترشحات غير الجدية، حذر الوقوع في سياسة الإقصاء الممنهج. واختار التمثيل النسبي الذي يحوّل عدد الأصوات المتحصّل عليها من قبل كل قائمة إلى عدد مقابل من المقاعد ويحوّل بقايا الأصوات التي أفرزتها القسمة إلى مقاعد بدورها، بعد أن يرتبها ترتيبا تنازليا.
وأثبتت التجربة أن حاصل هذه العملية يوزع مقاعد كل دائرة من الدوائر الانتخابية على عدد من القائمات دون مراعاة كبيرة للاختلاف في عدد الأصوات. وهذا ما جعل الوصول إلى مجلس النواب رهينة ضربة حظ فتضخم عدد القائمات ودخلت المجلس أحزاب هامشية أو مستقلون لا سند لهم وأضاع الناخب بوصلة الاختيار وهو يواجه ما يفوق السبعين قائمة يغرقه جميعها في وعود لا قبل بتحقيقها.
ومن عيوب هذا النظام الانتخابي، عدم تشجيعه للأحزاب السياسية على خوض الانتخابات في شكل ائتلافات تتقارب في الرؤى وتشترك في البرامج. ولكنه يرغمها بعدها على عقد تحالفات اضطرارية تفرضها النتائج. فلا تبنى على تقارب المشاريع والتصورات السياسية وإنما على الرغبة في نصيب من "كعكة الحكم"، وهذا ولّد حكما ثلاثي الرؤوس نادرا ما عمل في انسجام وجعل المحاصصة الحزبية أساس تولي المسؤوليات في الدولة بدلا من الكفاءة مما أضر بجدوى العملية الانتخابية وميّعها ونفّر الناخب من المشاركة فيها بعد أن وجد في نتائجها سطوا على صوته وعلى إرادته.
ومن مفارقات هذا النظام أنّ رئيس الحكومة، غير المنتخب، يتمتع بسلطات أوسع من رئيس الدولة، المنتخب انتخابا مباشرا وبالمقابل يكون في تبعية تامة للأغلبية البرلمانية. فتنافرت رؤوس الحكم وتصادمت. وما التعطيل السياسي والإداري الذي تواجهه حكومة المشيشي هذه الأيام بعد أن رفض الرئيس قيس سعيد استقبال وزرائه لآداء اليمين غير وجه من وجوه أزمة هذا النظام العميقة.
2 ـ اقتصاد البارونات والفساد والإهمال:
يعرّف الفساد المالي بسوء استخدام السلطة والنفوذ والمنصب العام لتحقيق المكاسب الشخصية ويعتبر عملا مخالفا للقانون والقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع. ولأنه يمثل عامة ظاهرة موازية للاقتصاد الحر، يخترق مختلف الدول وينعكس سلبيا على اقتصـادها وعلى قدراتها التنافسية. ولذلك توجه الجهود لمقاومته وتفكيك بناه.
أما في لبنان فيوصف بكونه بنيويا "تجيزه" هياكل الدولة نفسها. فمواردها وقوانينها تمثل غطاء شرعيا تستخدمه المجموعات، الطائفية عادة، لتحقيق المكاسب الخاصّة. ويشمل منظومة الشراء العام، واستغلال الأملاك العامّة وإعادة توزيعها. فقد ورد في تقرير "هيومن رايتس ووتش" العالمي 2020 أن السلطات اللبنانية تتقاعس في مقاومة الفساد وفي معالجة الأزمة الاقتصادية والسياسية الخطيرة في البلاد.
ونتيجة لغياب الإجراءات التي تضمن مبدأ الشفافية والمحاسبة العادلة تقف البلاد اليوم على شفا الإفلاس فتزيد ديونها على إجمالي الناتج المحلي بمعدل 170%، وترتفع الأسعار وتنهار العملة ويعجز المواطن على تأمين ضرورات الحياة ويواجه جشع البنوك والفساد في النظام المصرفي دون سند. ولم يفض هذا الفساد إلى فقدان المواطن للثقة في النخب الحاكمة فحسب. فقد خسرت لبنان ثقة المجموعة الدولية أيضا، إذ اشترط المانحون الدوليون في مؤتمر إغاثتها في أعقاب انفجار مرفأ بيروت وجود إصلاحات سياسية شاملة، لمساعدتها اقتصاديا، وقرروا بأن "تذهب أموال الإغاثة للشعب مباشرة". وفق تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون.
الخروج من الدائرة المغلقة يقتضي الوعي بأنّ هذه الأزمات التي تبدو سياسية اقتصادية واجتماعية في طبقتها السطحية، هي أزمات قيمية في عمقها. فقد تضاءل المعنوي والأدبي والرمزي كما سلّم القيم الأخلاقية واقتصر على كل ما هو مادي واختزل تصورنا للنجاح والسعادة والأمان في الرفاه والثراء.
ولا يختلف الحال في تونس عن نظيره اللبناني. فقد بات من الواضح أن الفساد اخترق منظومة الحكم واستقر في بنيتها. فالقوانين والتشريعات تسن وفق "كراسات شروط" محددة لخدمة بعض البارونات أو هي تقنن الفساد وتحمي الفاسدين وتشكل نوعاً من الحصانة القانونية لإفلاتهم من العقاب. ولنأخذ المجلة الجزائية التونسية على سبيل المثال. فهي لا تحتوي على كلمة فساد أو متابعة الفاسدين إطلاقا. ولم يقع تغيير القوانين التي تنظم الصفقات القانونية رغم صخب السياسيين وتبجحهم بمقاومة الفساد. ويمثل مجال الشراءات والصفقات العامة أبرز بؤره.
ونظرا للنقص الكبير في مقومات الحوكمة والشفافية والتضييقات الممارسة على المبلغين عن الفساد في القطاع العام وتواطؤ مسؤولي أجهزة الدولة بلغ الاقتصاد الموازي، غير الخاضع لرقابة الدولة وغير المسهم في مواردها الضريبية، نسبة 40 %، بينما تحدد المعايير الدولية بأن نسبته لا يمكن أن تتعدى الـ 20 %. وهذا ما جعل الرئيس السابق لهيئة مكافحة الفساد يصرّح بأنّ "بارونات الفساد اخترقوا وزارة الداخلية ووزارة المالية والجمارك والقضاء ووسائل الإعلام ومجلس النواب والأحزاب السياسية"، وبأن قرابة ملياري دينار تونسي تُستنزف من ميزانية الدولة نتيجة غياب الحوكمة والتصرف الرشيد في مؤسساتها.
3 ـ إهمال ولامبالاة بحياة الشعب ومدخرات البلاد:
تعد مظاهر الإهمال عنصرا مشتركا بين البلدين تجسد أنانية المسؤولين ولا مبالاتهم بالمصلحة العامة اللذين كلّفا الدولتين خسائر فادحة وفرطا في هيبتها. ولكثرتها نكتفي ببعض العينات الدّالة المختزلة للواقع السياسي والإداري.
فمن الجانب اللبناني نذكّر بانفجار نترات الألمونيوم في مرفأ بيروت بتاريخ 4 أغسطس/آب 2020 الذي تسبب في مقتل نحو 200 شخص وخلّف أكثر من 6 آلاف جريح، فضلا عن الأضرار المادية الهائلة. فقد تبين بعد الانفجار أن هذه المواد مصادرة من سفينة ومخزنة منذ عام 2014 وأنّ إدارة المرفأ والحكومة والأجهزة الأمنية ومسؤولين سابقين وحاليين من الجمارك كانوا على علم بمخاطر تخزينها دون أن يأبهوا بذلك.
وبعد التثبت من تلقيهم عدة مراسلات خطية تحذّرهم من المماطلة في إبقاء نترات الألمونيوم بالمرفأ، وعدم قيامهم بالإجراءات الضرورية وجه المحقق العدلي في دعوى قضائية بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، وثلاثة وزراء سابقين بتهمة "الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة مئات الأشخاص أو جرحهم".
وبالموازاة تعيش تونس هذه الأيام على وقع أكثر من قضية فساد كبرى. فقد تمت إقالة وزير البيئة والشؤون المحلية، مصطفى العروي، على خلفية قضية "النفايات الإيطالية". فقد ثبت أنّ "نفايات منزلية" يُمنع توريدها، حسب القانون التونسي رقم 41 لسنة 1996 أدخلت إلى البلاد في نحو 70 حاوية، وسُجّلت على أنها نفايات بلاستيكية سيعاد تدويرها. ثم قرر القاضي حبس 8 متهمين، بينهم العروي، على ذمة التحقيق.
وصُدم الرأي العام بالكشف عن 18 ألف قنطار من الحبوب الفاسدة والمسرطنة نتيجة للإهمال تم نقلها إلى مخازن تابعة لوزارة الفلاحة بمدينة "قبلاط" من محافظة باجة بالشمال التونسي. وفتح تحقيق للاشتباه فى تورط مسؤولين سامين بالدولة فيها، منهم وزير فلاحة سابق ومستشار حالي برئاسة الحكومة ووكيل الشركة التعاونية المركزية بقبلاط.
ولم تكن هذه القضية غير الجزء الطافح من جبل الجليد فوق سطح الماء. فقد كشفت قضية القمح الفاسد، عن تجاوزات في طريقة نقلها من باجة الى قبلاط بعيدا عن أعين الرقابة وعن فساد مالي وتضارب مصالح في توريد أدوية (فلاحية) وتقصير في حماية صابة الحبوب وشبهات الفساد تتعلق بصفقة أدوية بقيمة مليون و130 ألف دينار وصفقة لشراء 180 ألف من الأكياس البلاستيكية لم تخضع للصفقات العمومية وشبهة فساد تتعلق بخلاص العملة وكراء طابق عمارة لفائدة الشركة التعاونية المركزية للقمح بتونس بقيمة 550 ألف دينار ثبت أنها لا تحتاجه.
4 ـ الانهيار القيمي رأس كل الشرور
من المؤسف حقّا أن يعاني البلدان العربيان اللذان يشهدان تداولا على السلطة مرنا وسلميا، شبح إفلاس الدولة وانهيارها حتى كأن قدر الشعوب العربية أن تَضيع حقوقها سواء كان الحكم متمركزا في يد شخص واحد أو تم توزيعه بين أقطاب متعددة متنافسة. وحرية التعبير والحريات العامة والمكتسبات الديمقراطية في كلا البلدين تظل في خطر ما لم يتم تجاوز التناحر الداخلي ولم يتم تأمين معاش المواطن.
وتقديرنا أن الخروج من الدائرة المغلقة يقتضي الوعي بأنّ هذه الأزمات التي تبدو سياسية اقتصادية واجتماعية في طبقتها السطحية، هي أزمات قيمية في عمقها. فقد تضاءل المعنوي والأدبي والرمزي كما سلّم القيم الأخلاقية واقتصر على كل ما هو مادي واختزل تصورنا للنجاح والسعادة والأمان في الرفاه والثراء. وهذا ما غذى الجشع وضاعف العطش إلى المال ولكن جمعه لم يكن يزيد الظمآن إلا عطشا على عطش. وانتهكت قيمة العدالة في ظل قضاء غير مستقل وغير أمين غالبا وفي غياب القرارات الرادعة وشيوع الإفلات من العقاب.
وأفضي تراخي المسؤول أو عجزه عن مقاومة الانحراف النقابي إلى الإضرار بقيمة العمل. فتعطّل الإنتاج وعانت المؤسسات العمومية المختلفة من تدهور موازناتها المالية وأضحت تمثل عبئا كبيرا على الدولة. وتراجعت قيمة المواطنة والقبول بالآخر المختلف وتدريب النفس على العيش معا بعد أن أضحى الولاء للطائفة أو المذهب أو الحزب مصعدا اجتماعيا يكفل المناصب والمكاسب.
وليس خافيا أنّ المبادرات الفردية وحدها تظل غير مجدية، رغم قيمتها الرمزية، وأن الانحراف أصاب جميع مكونات هذين المجتمعين وشرائحهما وأن أيّ إصلاح سياسي أو اقتصادي يمر حتما عبر إصلاح فعلي للقضاء أولا وهذا عمل السياسيين والحقوقيين خاصة وإعادة الإنسان إلى إنسانيته التي هجرها بعد أن أضحى عبدا للدرهم والدينار قبل الحديث عن المناويل الاقتصادية أو الخلفيات الإيديولوجية وهذا دور المثقفين أساسا، ولكن لينهضوا بهذه المهمة عليهم أن يواجهوا استلابهم وتدورهم قبلئذ.