يبدو العنوان إقرارا مبالغا فيه بفشل المعارضة العربية في تأمين مرحلة ما بعد سقوط واجهة الاستبداد خلال السنوات العشر التي تلت ثورات الربيع، بل هو يحمل في طياته إطراءً ظاهرا للأنظمة الاستبدادية التي حكمت المنطقة منذ عقود طويلة وينسف نسفا كل ما قدمته أحزاب المعارضة من إنجازات طوال تاريخها.
يبدو هذا القول خلاصة يائسة للفشل الذريع الذي مُني به أداء المعارضة العربية وهي التي صارت جزءا من المشكل لا جزءا من الحل. حصاد السنوات الأخيرة كان حصادا مرّا على مستوى وعي الشعوب بحقيقة المعارضة ووعيها بحجم التزييف والضلال الذي أسقطت فيه شعوبا وأجيالا بكاملها لتوهمها بأنها بديل للنظام القائم.
ماذا نقصد بالمعارضة العربية ومنْ نقصد بها؟ أين تظهر علامات فشل المعارضة وكيف تحولت إلى جزء من النظام الاستبدادي نفسه؟ ما هي بدائل المعارضة العربية وكيف الخروج من المأزق؟
المعارضة مفهوما وتشكُّلا
المعارضة فكرة وسلوك وفعل قبل أن تتشكل في هذا الشكل التنظيمي أو ذاك وهي مبدأ طبيعي حسب منطق الأشياء فلكل شيء في الكون مقابل له يعمل على إلغائه ومحاولة تعويضه والحلول مكانه. وهو الأمر الذي يجعل من وجود معارضة سياسية أو فكرية أمرا طبيعيا بل حتميا في كثير من الأحوال يضمن توازن المجتمعات والدول.
أمّا أشكالها فهي أساسا الأحزاب السياسية التي تشكلت في مختلف البلدان العربية داخل منظومة الأنساق السياسية التي تسمح بذلك. أما في الأنظمة الشمولية التي لم تكن تسمح بوجود أحزاب معارضة فقد تشكلت في المهجر قوى وأحزاب سياسية تطرح بدائل للنظام القائم. تتشكل المعارضة كذلك خارج الإطار الحزبي السياسي كأن تكون ذات منحى فكري أو فنّي أو مدني لكنها تحمل فكرة رفض النظام القائم وتطرح البدائل الممكنة له.
عادة ما لا تكون تشكيلات المعارضة حاملة لنفس المرجعية الفكرية والسياسية فتتكون من أطياف مختلفة من اليمين إلى اليسار ونادرا ما تكون المعارضة سواء في الداخل أو في الخارج موحّدة في مرجعيتها وأطروحاتها وبدائلها. لكن من جهة أخرى يفترض دائما في هذه الأحزاب والتشكيلات أن تحافظ على حدّ من التنسيق فيما بينها بسبب وحدة الهدف وهو إسقاط النظام القائم أو إصلاحه في حالات أخرى.
عربيا لم تكن الأحزاب السياسية قبل ثورات الربيع تنادي بإسقاط النظام بل عرف هذا الشعار طريقه إلى الخطاب السياسي خلال ثورة تونس التي انطلق منها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". كانت أغلب الأحزاب تطالب بإصلاحات من داخل منظومة الحكم ولم تكن تملك الجرأة على المطالبة برأس النظام وهو ما رأيناه عند أغلب الأحزاب الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمون في تونس ومصر مثلا.
نهاية الطريق
كانت أقصى طموحات الأحزاب والمنظمات والجمعيات والأفراد تحقيق قدر أكبر من حرية الممارسة السياسية والمشاركة في السلطة. كانت أهم التنظيمات المعارضة مشكّلة في الأحزاب الإسلامية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين في مختلف الدول والأقطار العربية لكنها ووجهت بحملات عنيفة جدا من التنكيل والاعتقال في مصر وتونس والجزائر وسوريا وليبيا.
لم تكن الأحزاب اليسارية والقومية وحتى اللبرالية تمثّل خطرا على النظام والسلطة الحاكمة فقد كان وجودها وظيفيا خادما للنظام القائم في أغلب الأحيان. فقد استعملت الأحزاب اليسارية ذراعا فكريا لمحاربة ما كان النظام الرسمي العربي يسميه المدّ الإسلامي كما شاركت في صياغة مشاريع السلطة واستلمت مناصب داخل الجهاز التنفيذي نفسه كما هو الحال في تونس ومصر. أما الأحزاب القومية فقد وصلت إلى الحكم في كثير من البلاد العربية مثل مصر والعراق وسوريا وليبيا وكانت أخطر الأنظمة وأشدها وحشية وقمعا للمعارضين.
لقد أدركت المنطقة نهاية طور الأيديولوجيات والأبنية الفكرية وصارت تبحث عن المشاريع والرؤى العملية اقتصادية ومالية واجتماعية قادرة على رسم طريق عملي ملموس للخروج من راهن الأزمة العميقة التي سقطت فيها.
قبل الانفجار التونسي الكبير كانت الأحزاب السياسية المعارضة تحظى بقدر من الاحترام وخاصة منها الأحزاب الإسلامية لكن المسارات التي عرفتها الثورات فتحت الباب أمام كثير من التساؤلات حول قدرة هذه الأحزاب على تأمين المراحل الانتقالية وعلى ممارسة السلطة.
لا يقتصر الأمر هنا على النوايا وعلى النضال والشعارات لكنّه يُركّز على الإنجاز والقدرة على الإنجاز في المراحل التاريخية الحاسمة. من جهة أولى انكشفت بسرعة حقيقة الأحزاب القومية واليسارية بما هي أحزمة من أحزمة الاستبداد لأنها شاركت بشكل كبير وفعّال في إرباك المرحلة الانتقالية مثلما هو الحال في تونس وأنجحت في مصر مشروع الانقلاب على الشرعية وعودة العسكر لحكم البلاد بقبضة من حديد.
أمّا الإسلاميون ونخص بالذكر حركة الإخوان فقد ارتكبت قدرا كبيرا من الأخطاء أدى إلى انكسار موجات الربيع العربي بعد الانقلاب المصري، إذ لا يمكن موضوعيا حصر فشل الثورة المصرية في الآخرين دون تحميل الطرف الخاسر جزءا من الخسارة. تراجعت ثورة ليبيا وضعفت ثورة تونس وتأثرت ثورة سوريا وعرف الربيع العربي مسارات دامية بعد سقوط التجربة المصرية التي كانت وخيمة العواقب على طور حضاري من أخطر أطوار تاريخ الأمّة.
المخارج والدروس
لقد أثبتت موجات التغيير العربية أن الشعوب كانت قادرة في زمن قياسي على الإطاحة بأكثر من نظام قمعي وتحقيق ما عجزت عن تحقيقه كل المعارضات والأحزاب. هذه الخلاصة الخطيرة تُثبت قدرة الشعوب على الفعل وتطرح أكثر من سؤال عن حقيقة المعارضة العربية ودورها المشبوه في إطالة عمر الاستبداد بالإيهام بمعارضته ومنحه شرعية الوجود.
منْ أعاد الدولة العميقة إلى الواجهة؟ ومنْ ساهم في إفشال المسارات الانتقالية وفي إحباط عملية الانتقال الديمقراطي غير النخب السياسية المعارضة التي وحّدها صراعها مع الاستبداد وشتتها صراعها على السلطة؟
إذا كانت أنظمة الحكم العربية موكّلة بتدجين الشعوب وقمعها ومنع نهضتها وهو السلوك الذي كانت تمارسه هذه الأنظمة في العلن فإن الدور التخريبي للمعارضة سواء كان ذلك عن قصد أو عن غفلة لم يعد خافيا على أحد بعد تجربة السنوات العشر المنصرمة.
من جهة أخرى تُطرح اليوم أكثر من أي وقت مضى أسئلة الراهن العربي التي تفرض جميعها على الأحزاب السياسية العربية المعارضة إعادة بناء فكرة المعارضة نفسها. هل تقتصر المعارضة على الشعارات والأيديولوجيات والخطب الرنانة أم تشترط أولا وقبل كل شيء مشاريع تطبيقية لتحرير الواقع من قبضة الفوضى؟
إن مسألة إعادة النظر في مشاريع الأحزاب السياسية المعارضة عربيا كلّ حسب سياقه القُطري تعدّ مسألة على قدر كبير من الأهمية. لقد أدركت المنطقة نهاية طور الأيديولوجيات والأبنية الفكرية وصارت تبحث عن المشاريع والرؤى العملية اقتصادية ومالية واجتماعية قادرة على رسم طريق عملي ملموس للخروج من راهن الأزمة العميقة التي سقطت فيها.
لم تعد المنطقة قادرة على تحمل حالة الصراع والتشرذم والصدام بين الأحزاب والمرجعيات والقوى بل صارت المجتمعات تبحث عن الحدّ الأدنى من التنسيق والاتفاق بين مختلف الأطراف حول حلول عملية واقعية لأزمات الشعوب. درس الربيع والثورات درس هام سيقود الأحزاب العربية إلى إعادة بناء نفسها من جديد حتى لا تندثر فتترك المكان لغيرها من الأشكال السياسية التي ستكون أكثر تلبية لشروط المرحلة ولمطالب شعوبها.
حكومة ادبيبة.. نهج نظري جيد تناقضه الإسقاطات العملية
المتعاونون والمقاومون الفلسطينيون