تقلبات الإنسان في الحياة تشبه تقلّبات البلدان عبر الأزمان، فالأمراض المُزْمنة تشبه فوضى الحروب الأهليّة، وأمراض القلب تشبه هشاشة القوّات الأمنيّة، وهكذا فكلّ عضو في الجسد البشريّ دوره كأدوار مؤسّسات الدول.
وفي الأوقات العصيبة تتمرّد الأقلام، وتمرض تماماً مثل أصحابها الذين تتجمّد أناملهم عن كتابة سطر واحد فضلاً عن جملة مفيدة!
مرّات كثيرة يُعاندني القلم، ويأبى أن يكتب شيئاً، فهل تمرّد عليّ؟ أم ملّ من هموم بلدي؟ أم يطلب استراحة بعد سنوات وسنوات من كتابة أكثر من ألف مقال في الشؤون العراقيّة؟ أم أنّ اعتلال صحتي خلال هذا الشهر زرعت فيه الخوار والتعب؟
وبعيداً عن أسباب "تمرّد قلمي" وجد نفسه مضطراً ويتحرّك بين أناملي؛ لأنّني أكره الصمت، وأكره كلّ مَنْ يَلوذ بالسكوت، ويهرب من قول كلمة الحقّ ونصرة أهله!
وأصعب أنواع التمرّد هو تمرّد القلم والفكر في
الغربة، حيث لا تعرف مَنْ أنت، ولا مَنْ تكون، ولا تعرف موضع قدمك؟
ما معنى أن تكون هيكلاً مجهولاً متحركاً في بلدان الاغتراب بين ملايين الهياكل؟
وما معنى أن تكون مجرّد رقم ضريبيّ يجب أن تُحاسب على جثتك الثقيلة المليئة بهموم الغربة والآهات في كلّ سنة؟
وما معنى طعم أيّامك التي تحوّلت لمجرّد "كارت إقامة" لا قيمة لك بدونه؟
وما معنى أن تكون مجرّد "فيزا كارد" تدفع لشركات التأمين الوهميّة التي تعطيك أوراقاً غير فاعلة بعشرات الدولارات وأنت مستسلم مُسْتكين؟
إنّ الراكضين نحو دروب الهجرة واهمون نائمون على آذانهم! ففي الغربة لا قيمة لسيارتك الفارهة، ولا لقصرك المنيف، أو حساباتك المصرفيّة أمام تعطّشك للمسة عطف، أو حنان، من أمك، أو أختك، أو قريب من أقربائك!
في الغربة تكون كـ"حصان" يشار إليك طالما تمتلك القدرة على الجري في ميادين الحياة، وحينما تسقط أو تكون ضعيفاً تبتعد عنك الأضواء، وكأنّ من سقط ليس إنساناً يئنّ، ويحنّ ويتألّم ويتحسر ويبكي في لحظات الشوق والضعف!
هنالك في دهاليز الغربة كلّ شيء يتطلب الركض والجري، وبعد سنوات من "التيه في الغربة" تقف أمام المرآة لتكتشف الحقيقة الصادمة أنّك فقدت أجمل سنوات حياتك دون أن تُحقّق أبسط أهدافك، بل ربّما أصبح لديك مئات أو آلاف الأعداء وقليل من الأصدقاء بسبب قلمك الذي حاول نقل الحقيقة والصرخات والآلام والدماء!
ماذا يعني أن تحصل على الجنسيّة السويديّة أو الألمانيّة أو البريطانيّة أو غيرها؟ فأنت وحدك تعرف إن عشت سعيداً في دهاليز الغربة، أم كنت غارقاً في وهم الجواز الأجنبيّ.
السعادة الحقيقيّة للإنسان أن يُحقّق بعض أهدافه في الحياة، فهل حقّقنا بعضها، أم نحن مجرّد أكوام بشريّة عبرت سبيل الحياة بلا أيّ أهداف تذكر؟
في الغربة تجد عشرات آلاف المخدّرين الغارقين في أوهام السعادة المزيّفة؛ لأنّهم في ساعتها يمتلكون القدرة على "الجري" في ميادين الغربة.
أعيدوا الناس إلى أوطانهم، رتّبوا لهم فرص الحياة الكريمة وحبّة الدواء المليئة بالعافية، ورغيف الخبز المحشيّ بالكرامة.
الدولة التي تعتقد أن واجبها ينحصر في تخويف الناس لضبط الأمن فقط؛ هذه دولة فاشلة بكلّ المقاييس، بل الدولة الناجحة هي التي تعتني بالمواطنين في حلِّهم وترحالهم، تماماً كما تفعل كلّ الدول الغربيّة وبعض الدول العربيّة، وذلك بتوجيه سفاراتها في الخارج لأن تكون البيت الآمن لمواطنيها المغتربين، والابتعاد عن جعل تلك البيوت الوطنيّة الخارجيّة (السفارات والقنصليّات والممثّليات) مجرّد دهاليز للتجسّس، وربّما مقار لعصابات شرّيرة لترهيب الناس، كما حصل مع بعض العراقيّين في العديد من سفارات الوطن، وهي التي يفترض أن تكون أماكن لتقديم الخدمات الممزوجة بشرف وكرامة للمواطنين، وليست دوائر مظلمة لإهانة الناس وتخويفهم!
الدولة التي لا تعتني بمواطنيها، ولا تحافظ على حياتهم وكرامتهم وصحّتهم ولا توفّر لهم، على الأقلّ، التأمين الصحّيّ وهم في دهاليز الغربة، هذه الدولة مؤلم أن يقتات ساستها من خيرات الشعب!
ما نقوله ليس أمنيّات، وليست "إكراميات" حكوميّة للمواطنين، بل بعض حقوق الناس الإنسانيّة!
لنتذكر أنّ حقوقنا المنهوبة ضاعت في جيوب الفاسدين والسرّاق والمتاجرين بقضايا الوطن المواطن!
وتبقى الغربة والأمراض والتحدّيات من أكبر المدارس التي يتعلّم فيها الإنسان قيمة الوطن والصحّة والأهل والأصدقاء والعيش الرغيد في الأوطان!
twitter.com/dr_jasemj67