ذاع أمر البطولة الاستثنائية للصبية السورية دعاء الزامل في عام 2015 على نطاق محدود، عندما كتبت الصحف اليونانية عن تجربتها القاسية في مصارعة الأمواج لأربعة أيام، بعد أن غرق المركب الذي كان يقلها وخلقا كثيرا من مختلف الجنسيات، كانوا يرومون الوصول إلى أوروبا هربا من الحروب والاضطهاد في بلدانهم، ثم سمعت بقصتها مليسا فليمنغ مسؤولة الاتصال في وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، فجالستها على مدى شهور طوال، ثم صاغت كل ذلك في كتاب حمل عنوان "أملٌ أقوى من البحر" متبوعا بعنوان فرعي "رحلة دعاء الزامل".
باختصار شديد: كانت دعاء صبية في الخامسة عشرة، تعيش في كنف عائلة ممتدة في درعا جنوب غرب سوريا عندما انفجرت المدينة في وجه حكم بشار الأسد، وشهدت كيف سحل عسكر النظام المتظاهرين ومارسوا شتى صنوف البطش والعسف بحق سكان المدينة، وليس انتهاء بتدمير المحل الصغير الذي كان والدها الحلاق يكسب منه قوتا شحيحا لعياله، ولما استحكمت حلقات البطش، لم تجد عائلة الزامل بُداً من التسلل إلى الأردن ومن هناك إلى مصر، حيث وجدت التعاطف الشعبي والرسمي، ثم كان انقلاب عبد الفتاح السيسي وقَلَب معه الرأي العام المصري ضد اللاجئين السوريين الذين كانوا قبلها مكان ترحيب.
اقترنت دعاء بلاجئ سوري آخر في مصر اسمه بسام، الذي أقنعها بضرورة الهجرة إلى أوروبا، فكان أن دفعوا مبالغ طائلة لمن يتولون تهريب البشر إلى أوربا، ثم كانت الرحلة على متن مركب متهالك، ثم التعرض إلى هجوم من قارب آخر لمتاجرين بالبشر أدى إلى إغراق المركب الذي كانت على متنه دعاء وبسام، وبعد صراع طويل مع الموج غرق بسام، وظلت دعاء متشبثة بعوامة صغيرة، ثم سلمها رجلان طفليهما لأنهما أدركا أنهما على وشك الغرق، فكان أن ظلت دعاء طافية طوال أربعة أيام في الماء وهي تحتضن الطفلين، إلى أن أنقذت ثلاثتهم سفينة تجارية ونقلتهم إلى جزيرة كريت اليونانية، ثم كان أن تناقلت وسائل الإعلام تلك الوقائع، وحدث تعاطف هائل مع دعاء في عموم أوروبا، وساعدتها وكالة غوث اللاجئين في الحصول على لجوء في السويد، ثم لحق بها بقية أفراد عائلتها.
إلى يوم الناس هذا يعاني ملايين السوريين ويلات الحرب الأهلية في بلدهم، فصاروا نازحين ولاجئين، وهلك منهم المئات في البحر الأبيض المتوسط وهم يحاولون كما دعاء الوصول إلى أوروبا، ولكن ولأن الإنسان العربي يعاني من فقدان الذاكرة الإرادي، لم يعد هناك من يتابع ويرصد ويوثق لمعاناة السوريين الذين ما زالت آلة السحل البَشَّارِيَّة الأسدية تطحن عظامهم، فطالما الإعلام العربي في معظمه واقع تحت سنابك السلاطين، وطالما أن الأمر في سوريا يتعلق بحراك شعبي عريض، كان لا بد من إغفاله قدر المستطاع، لإدراك السلاطين أن مثل ذلك الحراك شديد العدوى والانتشار، في ذاكرتهم كيف كان ذلك من تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن وسوريا.
إلى يوم الناس هذا يعاني ملايين السوريين ويلات الحرب الأهلية في بلدهم، فصاروا نازحين ولاجئين، وهلك منهم المئات في البحر الأبيض المتوسط وهم يحاولون كما دعاء الوصول إلى أوروبا، ولكن ولأن الإنسان العربي يعاني من فقدان الذاكرة الإرادي، لم يعد هناك من يتابع ويرصد ويوثق لمعاناة السوريين الذين ما زالت آلة السحل البَشَّارِيَّة الأسدية تطحن عظامهم،
سألوا فليمنغ مؤلفة الكتاب عن تجربة دعاء الزامل لماذا اختارت قصة فرد واحد بينما هناك ملايين السوريين الذين خاضوا وما زالوا يخوضون تجارب قد تكون أكثر إيلاما من تجربة دعاء، فقالت: ما الإحصاءات إلا بشر جفت فيهم الدموع، وفي عالم اليوم هناك 60 مليون لاجئ، ويصعب على الإنسان التعاطف "بالجملة"، بينما قصة أو مأساة فرد واحد بكل تفاصيلها تحكي تجارب أولئك الملايين وتلفت الانتباه إلى معاناتهم، ويكفي للتدليل على هذا أن قصة دعاء حركت وهزت ملايين القلوب في أوروبا وحملت العديد من الدول على فتح حدودها لاستقبال اللاجئين السوريين.
قبل أعوام قليلة شهدت جانبا من مهرجان أدنبره الثقافي، وبدعوة من شابة فلسطينية قتل أفراد عائلتها في تل الزعتر في لبنان في آب (أغسطس) 1976، شهدت عرضا مسرحيا لطالبات مدرسة في بيت لحم عن الويلات التي مر بها الفلسطينيون خلال الانتفاضة الثانية، وتولى رعاية المسرحية وتكاليف نقل الطالبات إلى أسكتلندا جماعة الكويكرز (طائفة مسيحية بروتستانتية تعرضت لاضطهاد شديد في مهدها في إنجلترا واستقر معظمهم في الأراضي الأمريكية).
بحكم العمل في مجال الصحافة الورقية وقتها، كنت أتابع مجريات تلك الانتفاضة بشكل يومي، ويتقلب مزاجي ما بين الألم وأنا أرى كيف يتهاوى شباب الانتفاضة تحت وابل النيران الإسرائيلية، وبين الأمل في أن أولئك الشباب على موعد مع القدر، ولكن ذلك العمل المسرحي الذي استغرق أقل من ساعة واحدة، هزني كما لم تهزني تقارير وكالات الأنباء حول مسار الانتفاضة على مدى أشهر طوال، وتمنيت لو أقرأ عن المسرحية في صحيفة عربية، ولكن لم أجد ذكرا لها إلا في مطبوعة محدودة التوزيع في الضفة الغربية التي ترزح تحت الاختلال والاحتلال.
وكنت مثل معظم العرب أعرف "طراطيش كلام" ومجرد عناوين عن القضية الفلسطينية: وعد بلفور/ 1948/ الهجاناه/ دير ياسين، ثم قرأت كتاب "البندقية وغصن الزيتون" للصحفي البريطاني ديفيد هيرست، واكتشفت كم كنتُ جاهلا بتلك القضية، واكتشفت أيضا كيف أن فلسطينيين كثراً، كتبوا عن القضية، ولكنها كانت في معظمها روايات من وجهات نظر التنظيمات التي ينتمون إليها، فجاءت متخمة بالهتاف بينما نصيبها من المعلومات "الكفاف".
كم هو محزن أن يتولى "الخبراء الأجانب" التبصير بأحوالنا وقضايانا ومآسينا، وكم هو مفجع أن يلوذ الملهوف والمنكوب منا ببلاد حتى طيرها أعجمي، ولكنها به رحيمة..
إيران قلقة من إمكانية تقارب تركيا مع مصر والسعودية
هلع المعارضة المصرية في تركيا!