أكثر من أي وقت مضى، يبدو
لبنان في حالة عدم توازن على كافة المستويات السياسية، حيث الحكومة وبورصتها التي لا تحكمها قواعد أو تواقيت، إضافة إلى دولار يراقص حياة اللبنانيين الغارقين في عتمة الكهرباء من جهة، والنفوس المريضة التي لا تعرف معنى الخدمة في الشأن العام؛ إلا من قبيل المحاصصة والتناتش وأخذ المغانم في بلاد فني فيها الإنسان وما تفنى العناقيد، من جهة ثانية.
إن الوقت يوما بعد يوم يؤكد حجم مأساة التخبط الحاصل من الملف الصحي ولجانه المتعددة لمواجهة كوفيد 19، وصولا إلى الانهيار المالي والاقتصادي الذي يضرب بلا هوادة في سبيل إيصال اللبنانيين إلى جهنم الموعودة، حيث تتضاءل الآمال وتحبط النفوس لشعب بات أقصى أحلامه غالون زيت مدعوم.
حدوديا التخبط سيد الموقف
إن آخر فصول العجز الحكومي والإداري جاء شمالا، حيث أعلنت الحكومة السورية عبر وزارة النفط والثروة المعدنية في الحكومة السورية، ثاني عقد مع شركة "كابيتال" الروسية للتنقيب عن البترول حصرياً في "البلوك" البحري رقم "1"، بالمنطقة
الاقتصادية الخالصة لسوريا في
البحر المتوسط، مقابل ساحل محافظة طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية- اللبنانية، بمساحة 2250 كلم مربعا. مدة العقد على مرحلتين، الأولى فترة الاستكشاف ومدتها 48 شهراً تبدأ بتوقيع العقد، مع إمكانية تمديدها لـ36 شهراً إضافياً. أما الفترة الثانية فهي مرحلة التنمية ومدتها 25 عاماً، قابلة للتمديد لخمس سنوات إضافية.
إن هذا القرار السيادي السوري ليس فيه المشكلة، إنما المشكلة في الحديث عن تداخل في البلوك رقم 1 بين المياه اللبنانية والسورية على مساحة 750 كلم مربعا ضمن الحصة الخالصة للبنان. وللتذكير فإن الحكومة السورية لم تعترف بطريقة ترسيم لبنان لحدوده البحرية في العام 2011، واشتكت على لبنان في العام 2014 معتبرةً أن الترسيم يخصّ لبنان فقط. وفي ذلك دليل على متابعة سوريا في عز حروبها الكثيرة لثرواتها، بينما لا زال لبنان يتخبط في نقاطه النهائية من الجنوب إلى الشمال.
وبعيدا عن لغة النقاط الحدودية وصوابيتها ومصداقيتها، حيث الحديث أن سوريا وضعت خطاً حدودياً ينطلق من الشاطئ أفقياً نحو الغرب كما تُظهر خرائط الترسيم المعتمدة سوريا، وهو ما كان قد اعترض عليه لبنان الذي يقول إنه عمل على الترسيم طبقا للقانون الدولي والقواعد المعمول بها عالمياً لرسم الحدود البحرية، وتم تطبيقها في ما خص الحدود مع سوريا في الشمال، وكذلك الحدود مع إسرائيل جنوباً. ولكن السؤال الكبير: كيف الحل وكلتا الحدود باتت ضمن الحل المعلق في مهب الريح في غياب أي صوت رسمي حقيقي.
الحل بيد الأمريكان جنوبا والروس شمالا
ببساطة ووضوح، إن ترسيم الحدود مع سوريا أكثر صعوبة ضمن لعبة الداخل اللبناني المرتبك؛ لأنه حتى الساعة لم يرسم طريقه الحقيقي في المقاربة مع الحكومة السورية إلا من خلال الرؤية المشتتة، فلكل فريق وحزب صورة وخارطة طريق وعيون مختلفة للتعاطي مع سوريا.
ولكن ما هي المقاربة المجدية للبنان الجريح اقتصاديا، والذي هو بأمسّ الحاجة لكل ذرة من
ثرواته في البر والبحر، لا سيما الثروات الأحفورية التي أضحت عنوان صراعات المتوسط من تركيا إلى فرنسا وإسرائيل واليونان، وصولا إلى ليبيا ومصر ومنتديات الطاقة المتعددة التي إن لم تجد سبلا عملية للتعاون قد تكون مفتاحا ناريا لحروب لا تنتهي؛ في زمن صراعات الثروات والممرات البحرية.
إن الناظر في العمق يرى أن مفاتيح الحل في الحدود الجنوبية سيبقى أمريكي الهوى والقدرة، وإن تعطلت المفاوضات مرحليا لكنها حكما سترى طريق العودة إلى الطاولة بحسب مبدأ لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، رغم كل الإشكاليات الجديدة، حيث قالت السفيرة الأمريكية أمام أحد المسؤولين الذين التقت بهم أخيرا إن الولايات المتحدة دولة مؤسسات واستراتيجيات، وبالتالي فإن جوهر سياساتنا ثابت ولكن المقاربات هي التي تتبدّل، داعية إلى الإسراع في إنجاز الترسيم الحدودي بالترافق مع استلام الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها، وذلك من خلال تفعيل مفاوضات الناقورة، علما أن لبنان يريد بحسب مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني، والتي أجرت مسحا سنة 2014 للشاطئ اللبناني الجنوبي في منطقة الناقورة وقامت بإعادة تحديد للمنطقة اللبنانية الخالصة، والتي أكّدت حقّ لبنان بمساحة 1430 كلم مربع فوق الـ860 كلم المربع التي تتنازعها مع إسرائيل.
فالحل جنوبا أولا وأخيرا بالتمسك قدر المستطاع بالحقوق والمحافظة عليها وتثبيتها ضمن الأطر الدولية، والسعي مع الوسيط الأمريكي لبلورة حلول جدية قادرة على ضمان حصة لبنان المفترضة في حقل كريش الواعد، حيث الدراسات اللبنانية تؤكد أن جزءا منه ضمن حصتها، وتاليا هل تكون الشركات الأمريكية مفتاح الحل والتقاسم أم يكون التفجير سيد الموقف؟
أما شمالا فالصورة على ضبابيتها تقول ما يُجمع عليه الكثير من أن روسيا مفتاح الحلحلة، حيث تطور الدور المحوري الروسي في لبنان وسوريا معا.
فالكل يدرك أن لموسكو مصلحة اقتصادية في كلتا الدولتين وعلى مقربة من قواعدها العسكرية في المتوسط، خصوصاً مع وجود شركة نوفاتيك الروسية في البحر اللبناني أصلا، وهي بدأت العمل مع التحالف الذي يضم إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية بالفعل، عبر البحث في استخراج
الغاز من البلوكات في لبنان رغم تعليق العمل مرحليا.
أما الآن وقد تأكد دور روسيا في البلوكات الموجودة في سوريا، فعليه ومنطقيا ستكون هناك مصلحة روسية لترسيم الحدود البحرية. ومن هنا يمكن التأكيد بأنه سيكون لروسيا دور إيجابي ومحوري لتسريع هذه المهمة في الحدود الشمالية اللبنانية.