الكتاب: "جدوى الحراك الشعبي العربي وأثره على الاستقرار والتغيير السياسي"
المؤلف: محمد نجيب بوليف
الطبعة 2021
عدد الصفحات: 546 صفحة
خضع الربيع العربي لدراسات كثيرة، ومن حقول معرفية مختلفة، وحصل تراكم كبير على مستوى توصيف تجاربه، والكشف عن محدداته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والفاعلين فيه، وموقع الفاعل الأجنبي، ومختلف التجارب التي عرفتها دول الربيع العربي لتأمين فترة الانتقال، بما فيها من نقاش حول الوثيقة الدستورية، وحول طبيعة النظام السياسي والخلاف حول تدبير قضايا المرجعية والهوية، وقضايا الحقوق والحريات، فضلا عن ترتيب السلطة.
بيد أن التراكم المحصل على مستوى هذه الدراسات، لا يقدم إلا الشيء القليل لفهم الحراك الذي عرفته عدد من الدول العربية مؤخرا، سواء في لبنان أو الجزائر أو السودان أو العراق، أو مختلف التعبيرات الاحتجاجية التي عرفتها عدد من الدول مثل المغرب والأردن. فبينما يميل بعض الباحثين إلى الحديث عن الخط اللولبي للثورات العربية، وأنها مسار متجدد، ينبعث كلما نضجت شروطه، يرى آخرون أن الحراكات التي عرفتها بعض الدول العربية مؤخرا، ليست استئنافا للثورات العربية ولا امتدادا لها، وأن فهمها يتطلب الوعي بجملة محددات وعناصر تفسير كل حالة على حدة، بل لا بد من الإحاطة بجملة مؤشرات تتدخل لتفسير هذه الحركات، وبيان تمايز بعضها عن بعض، وتمايزها في الجملة عن موجة الربيع العربي.
ومن الدراسات الجادة، التي حاولت أن تقدم تفسيرا للنماذج الثلاثة من الحراك العربي في موجته الثانية (السودان، الجزائر، العراق)، دراسة الدكتور محمد نجيب بوليف التي صدرت مؤخرا بعنوان "جدوى الحراك الشعبي العربي وأثره على الاستقرار والتغيير السياسي". وحاول المؤلف، الدكتور في الاقتصاد، ووزير الشؤون العامة في حكومة عبد الإله بن كيران وكاتب الدولة السابق، المكلف بقطاع النقل في حكومة سعد الدين العثماني، محمد نجيب بوليف أن يستفيد من المساحة الزمنية في الرصد والتحليل، ويخضع هذه النماذج لمشرحة التحليل، مستعينا بخبرته في مجال الاقتصاد، وموظفا عددا من المعطيات الإحصائية والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، لتقديم نموذج تفسيري.
الحراك العربي.. مساهمة في التفسير ودراسة التحولات
يكشف المؤلف عن سبب تأليفه الكتاب، وأن مادته تعود إلى فترة الحجر الصحي، وتحديدا بعد انتهائه من المهمة الوزارية التي دامت حوالي ثماني سنوات، وأن ما دفعه لذلك هو الصورة المقلقة للعالم العربي.
يحاول المؤلف من خلال دراسته، أن يوفر من خلال جهد توثيقي رصيدا معرفيا مرجعيا مهما حول الواقع السياسي والاجتماعي وتطوراته في بعض البلدان العربية، وذلك من خلال عرض مختلف تجاربها الحزبية، وكذا التعاطي التاريخي للأحزاب مع الواقع الداخلي والحركات الاحتجاجية، وقد حرص المؤلف في هذا الإطار على تقديم سير ذاتية مختصرة ومعبرة عن مسار عدد كبير من القادة السياسيين الذين كان لهم دور فاعل ووازن في المرحلة السياسية الأخيرة.
وفضلا عن الجهد التوثيقي، فقد سعى الكاتب إلى تسليط الضوء على تجارب وتمثلات وأبعاد الحركات الاحتجاجية التي جاءت كموجة ثانية من الربيع العربي، وقياس مدى تفاعل الدول / الأنظمة مع المطالب الاجتماعية، وأثر الثقافة الحقوقية والمتغيرات السياسية في استقرار / لا استقرار الأنظمة السياسية.
ويمكن القول بأن جوهر ما في الكتاب هو الجهد المعرفي الكبير الذي بذله المؤلف من أجل كشف وتحليل الأسباب الرئيسية لهذه الاحتجاجات مستعينا في ذلك بدراسة تحليلية إحصائية لمختلف المؤشرات المحتمل أن تكون مؤثرة في انطلاق أي حراك، (قام المؤلف بدراسة حوالي 50 مؤشرا ضمن هذه الأسباب)، وكذا قيامه باستقراء بعض التحولات الاجتماعية والسياسية لما بعد الموجتين الأولى والثانية من الربيع العربي وانعكاساتها المختلفة مع مساهمته في تقديم رؤية استشرافية تتضمن اقتراح آليات محددة تتناسب ومعالجة هذه التحولات وتبدي الرأي حول جدوى الحراكات العربية.
ومن الملفت في هذه الدراسة أن المؤلف، حاول أن يستعين بعرض تاريخي موجز للبلدان العربية المعنية بالدراسة، قصد من خلاله الإجابة عن سؤال: هل كانت هذه الدول تتوفر فيها ـ تاريخيا ـ مقومات التماسك الاجتماعي أم أنها كانت عبر التاريخ حاملة لبذور الاحتجاجات والانشقاقات الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو غيرها؟ وهل تقدم الخبرة التاريخية بهذه الدولة أي خبرة بخصوص قدرتها على تدبير التوافقات السياسية داخلها؟
سعى الكاتب إلى تسليط الضوء على تجارب وتمثلات وأبعاد الحركات الاحتجاجية التي جاءت كموجة ثانية من الربيع العربي، وقياس مدى تفاعل الدول / الأنظمة مع المطالب الاجتماعية، وأثر الثقافة الحقوقية والمتغيرات السياسية في استقرار / لا استقرار الأنظمة السياسية.
وقد كان القصد من هذا بحث هذا السؤال من داخل الخبرة التاريخية لهذه الدول هو معرفة مدى تأثير الجذور التاريخية والعلاقات عبر مر الأزمان على المتغيرات الحالية وعلى التطور التاريخي للحركات الاحتجاجية.
وقد ظهر من اختيارات المؤلف من بحث هذه التفاعلات التشابكية، أن القصد المنهجي اتجه إلى فرز نوعية الدوافع والأسباب الموصلة إلى الفعل الاحتجاجي. فمن جهة قد تكون الأسباب اقتصادية واجتماعية (موضوعية) مرتبطة بمستوى العيش والفوارق الاجتماعية، وقد تكون الدوافع عرقية أو دينية مرتبطة بالصراع الذي يفرضه حب السيطرة والتحكم من طرف فئة دون أخرى... كما قد تكون الأسباب لها علاقة بالحقوق السياسية والثقافية، من حرية التعبير والتمثيلية والديموقراطية، وقد تجد أسبابها في طرق الحكامة والتدبير وتفشي الفساد والمحسوبية، مما يستدعي طرح أسئلة ذات ارتباط وثيق بأهمية تطور السلوكيات الاحتجاجية في الأوطان العربية، ومدى استقرار/تغير /تطور المطالب التي أدت للاحتجاج، وهل يحمل هذا التطور في طياته دائما حتمية تغيير طبيعة الأنظمة السياسية؟ أم أن هذه الأخيرة هي التي تكون لها الكلمة الفصل في مآل الاحتجاجات بإفشالها و / أو احتوائها، من خلال الوعود الفضفاضة أو الاستجابة التامة أو الجزئية للمطالب أو الاحتواء الناعم أو الخشن لها.
النماذج الثلاثة للحراك العربي.. السمات والمميزات
قسم المؤلف دراسته إلى ثلاثة فصول، تناول في كل فصل منها حراكا من الحركات العربية التي برزت منذ سنة 2019، فبعد الفصل التمهيدي الذي خصصه لبحث المتغيرات الاجتماعية والسياسية، ورصد المؤشرات التي تتم، خصص المؤلف الفصل الأول، لدراسة نموذج الحراك السوداني، مقدما نبذة تاريخية عن نشأة السودان وتطوره، وطبيعة الحياة السياسية به، وخارطة الأحزاب التي تعمل في الحقل السياسي وطبيعة كل مجموعة على حدة، التقليدية المتعاقبة على التدبير الحكومي والتقليدية المعارضة والأحزاب التحررية والحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، عرج المؤلف على أثر التحولات والديناميات الداخلية للأحزاب (مشاكل تنظيمية انشقاقات) على استمرار نجاح الثورة.
وقد حاول المؤلف تتبع تطور الاحتجاجات الشعبية في السودان، من خلال رصد تسلسل الأحداث ونتائجها، والمخاض الصعب الذي عرفته تسارع الأحداث بعد إسقاط البشير، بدءا من المأسسة القانونية للمرحلة الانتقالية والإعلان الدستوري وقانون تفكيك نظام الإنقاذ، والأدوار التي قامت بها قوى ما بعد الثورة، والملفات الكبرى للتدبير خلال المرحلة الانتقالية، سواء منها تدبير الوضعية الاقتصادية الهشة أو تأمين وحدة البلاد أو مآل التحالف القائد للثورة، كما تعرض ضمن دراسة هذا النموذج لتطورات الحكومة الانتقالية الجديدة بعد توقيع اتفاق السلام، وما ارتبط بذلك من إصلاحات دستورية وقانونية فضلا عن الجدل حول ملف التطبيع.
وعلى النسق ذاته، حاول الباحث أن يتناول في الفصل الثاني نموذج الحراك الجزائري، فقدم نبذة تاريخية مختصرة عن تاريخ الجزائر وواقع الحياة السياسية وأهم الأحزاب التي تنشط الحقل السياسي الجزائري، والمجموعات التي تنتظمها (مجموعة أحزاب ما قبل الثورة والاستقلال، أحزاب الرعيل الأول من الاستقلال، والأحزاب الإسلامية بمكوناتها المختلفة، فضلا عن أحزاب أخرى) وقد قدم المؤلف أيضا نبذة مختصرة عن تطورات الوضع السياسي منذ فترة الشاذلي بن جديد، مرورا بالحرب الأهلية الجزائرية، ثم فترة الصلح والوئام المدني، ليتوقف عند حراك فبراير 2019، وأثر العهدة الخامسة في تفجيره، والمسار الذي أخذه التفاوض بين الحراك والسلطة، بما في ذلك التوظيف السياسي للحراك لتصفية الحسابات بين أجنحتها.
وفي الفصل الثالث، سار المؤلف على النهج ذاته في دراسة النموذج العراقي من الحراك، محاولا إضافة بعد آخر في دراسة هذا النموذج، هو ما يرتبط بالدور الإقليمي الإيراني، وبدور ورقة داعش وـأثيرها على الاستقرار/اللااستقرار.
وقد حرص المؤلف في كل فصل أن يدرس الحراك، ويحدد العوامل المؤثرة في تفسيره، سواء من خلال الإفادة من الخبرة التاريخية للبلد، أو من خلال طبيعة الحياة السياسية، وأدوار الفاعلين السياسيين فيه، أو من خلال الإحالة على المؤشرات المختلفة المؤثرة في صناعة الحراك، وكان يختم كل فصل على حدة، بتسجيل الخلاصات المستفادة من دراسة النموذج.
وقد سجل المؤلف في خلاصة دراسته لهذه النماذج الثلاثة، أنها اتسمت في عمومها بنوع كبير من النضج الناتج عن التراكمات الاحتجاجية السابقة والاستفادة من الموجة الأولى للربيع العربي. فالطابع العام الغالب عليها هو التظاهر السلمي، حيث يصر المحتجون على تفويت الفرصة على الأنظمة الحاكمة وعدم إعطائها أي من المبررات التي قد تسمح لها باستخدام العنف في جميع تجلياته الظاهرة والخفية، وذلك لكون الموجة الأولى من الحراكات أبانت أن الغلبة كانت دائما للأنظمة السياسية التي حصلت على دعم الأجهزة الأمنية، وللأطراف التي تجد في الجيش سندا وحليفا لها، إضافة إلى الدعم الموفر لها من طرف المتدخلين الإقليميين والدوليين.
ربيع عربي آخر قادم
من الجوانب المهمة التي انتهى إليها الباحث في خلاصاته، هو تجدر الثورات العربية، وأن الأسباب والظروف بررتها (تفشي الفساد، وضعف الحكامة، وتدهور الاقتصاد، وتراجع الخدمات الاجتماعية والمستوى المعيشي، وبطء الإصلاحات الحقوقية، واستمرار التضييق على حرية الرأي والتعبير، واختناق المناخ الديمقراطي، وتصاعد الفوارق الاجتماعية مع ضعف العدالة الاجتماعية، وعدم جدوى العمليات الانتخابية، إضافة إلى المخلفات الظاهرة والخفية لجائحة كوفيد 19 حالا ومستقبلا) لا تزال قائمة، بل تزيد من تعميق الأزمة العامة...
يقلل المؤلف من الآليات والوسائل التي اعتمدت عليها الأنظمة لوأد أو استيعاب الموجة الأولى من الربيع العربي، ويعتبر أن تفادي الموجات القادمة يستدعي التفكير الاستباقي في تجديد العقد الاجتماعي بانفتاح الأنظمة السياسية على مواطنيها وبذل الجدية في محاربة الفساد وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والتخفيف من وطأة الفقر والبطالة، وأن الإبقاء على العقد الاجتماعي الذي صيغ في الحقبة الاستعمارية، أو ما بعدها مباشرة، لن يكون فعالا.
يقرأ المؤلف انطلاق الموجات الثانية من الحراك من هذه الزاوية، فسلوك بلدان الموجة الأولى من الحراك، هو الذي شجع بلدانا عربية أخرى على الانخراط في الموجة الثانية من الربيع العربي لعلها تكون أوفر حظا من الأولى.
ومن النتائج التي خلص إليها المؤلف في دراسته أن التغيير الذي تتطلع إليه الشعوب والتعبيرات الاحتجاجية لا يمكن أن يتحقق إلا في سياق تراكمي، كما أن التغييرات السطحية، كمجيئ رئيس "صوري" مكان آخر، أو تعديل الدستور بما يتلاءم مع الوضع، أو إجراء "روتوشات" إصلاحية خفيفة، أو تعديل حكومي مدمج لبعض فئات المحتجين، لا يمكن أن يحقق أي إصلاح سياسي، فضلا عن أن يقدم جوابا نهائيا للحراك العربي.
ويسجل المؤلف بإيجابية حصول بعض التغيرات الاجتماعية المعبرة التي شملت مختلف مناحي الحياة، توضحها الأرقام والمعطيات الإحصائية الكمية المرتبطة بحجم ومستوى التواصل الاجتماعي، وكذا صيغ الترابط الأسري والمجتمعي، وطريقة وآليات الخطاب، والاستقراءات الكيفية والمطالب والشعارات المرفوعة من طرف المحتجين.
ويسجل المؤلف في خلاصاته أيضا ظاهرة أخرى، وترتبط من جانب بـ"إجبار" الحكام على رفع سقف الحريات والسماح بهامش أكبر للتحرك والتعبير، ومن جانب آخر بارتفاع سقف المطالب والشعارات من جهة المحتجين...وهكذا أصبح تبني مطالب الإصلاح ومحاربة الفساد والمفسدين والتعبير عن المطالب الحياتية لعموم المواطنين أو لفئات معينة يتم من خلال اعتماد ثقافة الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات السلمية، بتجلياتها المتعددة والمختلفة.
الثورات الناجحة
ويرصد المؤلف أيضا في خلاصاته ضعف مؤسسات الوساطة، من أحزاب سياسية ونقابات وتمثيليات مهنية ومؤسسات المجتمع المدني، في تصريف الاحتجاجات وتأطيرها ميدانيا، بحيث تبرز في غالب الحالات قيادات ميدانية، مستعملة بكثافة الوسائط الاجتماعية للدعوة للاحتجاجات واستفادته من ارتفاع مستوى المتابعة والتغطية التي أصبحت آنية، والتمكين الفوري والآني لكل بقاع العالم من معرفة ما يجري خلال فترة الاحتجاجات، مما يصعب من المهمة "القمعية" التي قد تلجأ إليها بعض الأجهزة الأمنية في البلدان التي تعرف ذلك.
ويتوقف المؤلف عند ما أسماه بتحقيق الأهداف الحراكية، ويرى أنها رهينة بتفاعل عدد من المؤثرات منها، طبيعة أنظمة الحكم (رئاسية، أنظمة وراثية هجينة، ملكية وراثية)، فكلما كانت الأنظمة السياسية العربية أقرب للرئاسية، كلما كان أمر تغيير الحراكات للأنظمة ممكنا، لكن بنسب متفاوتة مرتبطة بمستوى نضج المجتمعات وتدخل الأسباب الأخرى الرئيسية في عمليات التغيير، ومنها دور الأجهزة الأمنية والعسكرية، فضلا عن موقف الهيئات المساندة أو المناهضة، ومستوى التدخل الخارجي.
فالثورات الناجحة، حسب المؤلف، هي التي تنبثق من الشعب وينخرط فيها غالبيته، وتستطيع استقطاب المكونات المجتمعية الرئيسية صاحبة القرار في البلد، ثم تتمكن من الحصول على دعم مختلف الأطياف الداخلية و/أو بعض الدول الخارجية، وتكون في نفس الوقت "موافقة" لهوى (قبلي أو بعدي) الأجهزة الأمنية (الجيش والعسكر)، أو سهلة التسليم لهم بقيادة البلد بعد إنجاز الثورات.
فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني.. قراءة في كتاب
عن العلاقة بين الشرق والغرب.. تاريخ المسلمين بالأندلس نموذجا
إرث الإمامين الشافعي وابن حنبل بعيون معاصرة.. قراءة في كتاب