لا تحتاج تونس لمستبد جديد، وإنما هي بحاجة لرئيس ديمقراطي ونظام سياسي حر ومنفتح، يُلبي طموحات ثورة الياسمين وأبنائها البررة، وينفض عن البلاد غبار عقود سابقة من القهر والقمع. أما السياسات التي يتبناها الرئيس قيس سعيّد، فمن المؤكد أنها مخيبة للآمال ولا يُمكن أن تصب في صالح إنجازات الثورة التونسية، التي ظلت طيلة السنوات العشر الماضية مثالا يُحتذى للشارع العربي من محيطه إلى خليجه.
آخر حلقات تخييب الآمال كانت زيارة سعيّد إلى مصر ولقاءه بالرئيس الذي وصل إلى الحكم على ظهر دبابة، بعد أن وضع في سجونه أكثر من 60 ألف معتقل لأسباب سياسية، ومع ذلك فالمشكلة ليست هنا، وإنما في الاحتفاء الكبير الذي حظيت به هذه الزيارة من قبل فلول نظام المخلوع بن علي، حيث قالت النائبة في البرلمان التونسي عبير موسي في تصريحات تلفزيونية؛ إن "المواضيع المطروحة في زيارة الرئيس التونسي وما استمعنا له، يتطابق كثيرا مع برنامج الحزب الدستوري الحر"، وهو ما يعني أن الرئيس قيس سعيّد أصبح يغازل فلول النظام السابق، ويتقارب مع الثورة المضادة، بعد أن وصل الى الحُكم في بلده بأصوات الثوريين، وعبر انتخابات حرة وديمقراطية نزيهة، لم تحتكم إلا لصندوق الاقتراع.
تقارب الرئيس التونسي مع معسكر الثورات المضادة مؤشر بالغ الخطورة، خاصة إذا ما أضيف إلى جملة من الهفوات السابقة التي أثارت جدلا في الشارع التونسي والعربي، فالرئيس أصبح أحد عوامل تعطيل الحياة السياسية الداخلية وأحد عوامل الأزمة، بدلا من أن يكون القاسم المشترك الأكبر الذي يعمل على تفكيك الأزمات التي تمر بها البلاد.
قبل ذلك، تسبب الرئيس سعيّد بصدمة في الشارع العربي بأكمله، عندما وصف الاستعمار الفرنسي المقيت بأنه "كان مجرد حماية ولم يكن احتلالا مباشرا"، وذلك خلال زيارته إلى باريس في حزيران/ يونيو من العام الماضي، في الوقت الذي لا تزال فيه شعوبنا العربية تناضل من أجل انتزاع اعتذار فرنسي عن حقبة الاستعمار والجرائم التي تم ارتكابها في الأقطار العربية خلال تلك الفترة!
ما يحدث هو أن الرئيس التونسي ينشغل ببعض الشكليات المثيرة للجدل مثل استخدام اللغة العربية الفصحى، أو الرسائل التقليدية القديمة كالتي كان السلاطين العرب يتداولونها في العصور السابقة، أو المزاعم بمحاولات تسميم، سرعان ما تبين أنها غير صحيحة، وذلك في الوقت الذي تغرق فيه البلاد والعباد بأزمات متلاحقة ومختلفة، وهي أزمات يتوجب على الرئيس أن يعمل على حلها لا تعقيدها.
وقبل هذا كله، شهدت الدبلوماسية التونسية والسياسة الخارجية حالة من الفوضى عندما تم تغيير السفير لدى الأمم المتحدة مرتين، وتبين أن أحدهما أعفي من منصبه بعد اعتزامه تقديم مشروع قرار يرفض "صفقة القرن"، التي تشكل أكبر تهديد للقضية الفلسطينية منذ عقود.
تونس هي أم الثورات العربية، وهي روح "الربيع العربي"، وهي التي أثبتت للعرب أن لهم صوتا وأن بمقدورهم التحرك والتحرر، وعليه؛ فإن أخطر ما تواجهه اليوم هو الاقتراب التدريجي من معسكر الثورات المضادة، والعودة إلى حظيرة النظام العربي التقليدي الذي يعادي الشعوب، ويعمل بعكس رغباتها ومصالحها.. وهنا أصل الحكاية.