تنشر "عربي21" في قسم "فلسطين الأرض والهوية"، توثيقا أسبوعيا لفلسطين، كما تبدو فكرة ومفهوما في أذهان المثقفين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين في العالم.. على اعتبار أن هذه الكتابات هي جزء من وثائق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر.
اليوم ننشر رأي السياسي المصري أحمد بهاء الدين شعبان، عن القضية الفلسطينية.
ارتبط أحمد بهاء الدين شعبان مبكرا بالمقاومة الفلسطينية، وترأس لجنة أنصار الثورة الفلسطينية، حين كان طالبا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة (1970 ـ 1976). وطُرد بعد انتفاضة يناير 1977، لكنه اختفى ثم أفلت إلى الخارج، ولم يعد الا بعد نحو أربع سنوات إلى مصر، عُرف بمؤلفاته من أجل فلسطين وضد الصهيونية، وبمواقفه السياسية المنحازة للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. غدا الأمين العام للحرب الاشتراكي المصري (2012)، ولم يزل. شارك في الكثير من الندوات والمحاضرات إلى جانب الشعب الفلسطيني وقريته.
لماذا أنا مع فلسطين؟
لم يحدث أبدا أن سألت نفسي، أو ساءلتها: لماذا أنا مع فلسطين؟ فهو سؤال ـ من وجهة نظري ـ غير منطقي، فهل يمكن ـ ببساطة ـ لإنسانٍ سَوِّىٍ، ذي ضمير، إلَّا أن يكون مع فلسطين؟!
وُلدت في أعقاب جريمة النكبة، وكارثة اغتصاب القسم الأكبر من الأرض الفلسطينية، لأبٍ يعمل بالسلك العسكري، ولذلك كان الحديث عن اغتصاب فلسطين، وهزيمة جيوش العرب، وبقر بطون السيدات الفلسطينيات والتنكيل بهن، وموجات الطرد الجماعي لأبناء الشعب الفلسطيني، ومُعسكرات اللاجئين، وغيرها مما له علاقة بالقضية، دائما ما يدور في جلسات أبي مع الأقران والأصدقاء، التي كان يُسمح لي بحضورها باعتباري الابن الأكبر في الأسرة، رغم حداثة السن واستغلاق الكثير مما كنت أسمعه على فهم الطفل الصغير الذي كنته.
حينما التحقت بالمدارس الأوليّة والابتدائية، ثم من بعد ذلك بالمدرسة الإعدادية، كانت معارك مصر مع الاستعمار قد استعرَّت، وخاصة بعد رفض أمريكا لتمويل مشروع السد العالي، ثم تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي، ومقاومة "الأحلاف"، والقومية العربية، وكان كل حديث في هذه القضايا، التي كانت تشغل كل مصري، هو حديث عن فلسطين بالضرورة، في الإذاعة المدرسية الصباحية، وحصص التربية الوطنية والإنشاء، وخاصة حصة الرسم، التي كان موضوعها الأساسي لا يخرج عن هذه العناوين.
لم تعد قضية فلسطين، في وعينا الذي بلورته محنة الهزيمة آنذاك، وكذلك مقاومة الصهيونية، وطرد العدو الصهيوني من كل الأرض العربية، قضية الشعب الفلسطيني وحسب، التي أحيا جذوتها تصاعد نضاله ضد الصهيونية وأشياعها من العرب، وخصوصا بعد معركة "الكرامة"، وإنما أصبحت ـ بشكلٍ أكثر وضوحا ـ قضية كل أحرار العالم
وأذكر أن مدرس الرسم في المرحلة الإعدادية كان أستاذا مشبوب الوطنية، ألهب خيالنا الغض بصور المواجهة الباسلة للعدوان الثلاثي (البريطاني ـ الفرنسي ـ الصهيوني) على مدينة بورسعيد، فأحببت مادة الرسم وكنت أقضي أوقاتا طويلة وأنا أرسم طائرات المُعتدين، وهي تُسقط المئات من المظليين الأعداء بواسطة "الباراشوتات" ـ المظلات ـ فوق المدينة، والشعب بصدره الأعزل، وبأسلحته البسيطة يقاوم باستماته، ويهزم العدوان.
وفي المدرسة الثانوية، كانت مداركي قد تفتَّحت مع تبلور المرحلة الناصرية، بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي واكبتها، والبُعد التحرري الثوري الذي اتسمت به، وبالطبع كان موضوع فلسطين حاضرا بقوة في صدارة المشهد، وانجذبت بشدّة إلى عالم الكتاب والقراءة، ورحت أغترف من معين الفكر والثقافة الثورية، وأبحث عن مزيد من الفهم للظاهرة الصهيونية!
وتعمَّق إدراكي للقضية حينما تم اختياري للالتحاق بـ "منظمة الشباب الاشتراكي"، التي أنشأها النظام الناصري في منتصف الستينيات، وكان موضوع كشف الصهيونية، باعتبارها صنيعة الاستعمار والإمبريالية، حاضرا فى صُلب كل برامج التثقيف الخاصة بها، حتى وقعت هزيمة الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، فمزّقت، ومجموعة من أقراني، بطاقات عضويتنا في "منظمة الشباب"، بعد أن صدمتنا أبعاد الكارثة، واتجهنا يسارا مع أغلب الرفاق، الذين اعتبروا أن قضية طرد المُحتل الصهيوني، الذي كان يربض على ضفة القناة، على مبعدة نحو مائة كيلومتر فقط من عاصمة المحروسة، وتحرير كل الأراضي العربية المحتلة، هي هدف حياتنا الأسمى.
وعي بلورته محنة الهزيمة
لم تعد قضية فلسطين، في وعينا الذي بلورته محنة الهزيمة آنذاك، وكذلك مقاومة الصهيونية، وطرد العدو الصهيوني من كل الأرض العربية، قضية الشعب الفلسطيني وحسب، التي أحيا جذوتها تصاعد نضاله ضد الصهيونية وأشياعها من العرب، وخصوصا بعد معركة "الكرامة"، وإنما أصبحت ـ بشكلٍ أكثر وضوحا ـ قضية كل أحرار العالم، وتحدَّدت قضية عمرنا، وصار تحرير بلادنا والإنسانية من هيمنة الإمبريالية، صانعة الصهيونية وأبيها الشرعي، غاية وجودنا، وشكَّلنا ـ في جامعة القاهرة ـ وكل جامعات مصر ومعاهدها، جماعات علي غرار جماعة "أنصار الثورة الفلسطينية"، التي كونَّاها في كلية الهندسة، عقب مجازر "أيلول الأسود"، للدفاع عن الثورة الفلسطينية المُحاصرة، ومد يد العون للشعب الفلسطيني المناضل.
وقاد "أنصار الثورة الفلسطينية"، في الجامعات المصرية، أهم الانتفاضات الطُّلابية المصرية المُعاصرة، طوال أغلب سنوات عقد السبعينيات الماضي، وكان طبيعيا أن يتم اعتقال الآلاف من الطُّلاب الثائرين وقياداتهم، وفي معتقل "القلعة" القروسطي الرهيب، قُيض لنا أن نلتقي مع الفدائيين الفلسطينيين الذين اغتالوا "وصفي التل"، ومع "أحمد فؤاد نجم"، و"الشيخ إمام"، شاعر الثورة ومُنشدها، ومن وحي اللحظة كتب "نجم"، وغنى الشيخ "إمام" عن مصر وفلسطين:
"أنا رحت القلعة وشفت "ياسين" (رمز شعبي مصري للبطولة والتضحية) حواليه العسكر والزنازين / والشوم والبوم / وكلاب الروم / يا خسارة يا أزهار البساتين / عيَّطي (إبكي) يا بهية على القوانين / أنا شفت شباب الجامعة الزين / "أحمد" و"بهاء" و"الكردي" و"زين" (قادة الحركة الطلابية الوطنية الديمقراطية) / حارمينهم حتى الشوف بالعين / وف عز الضهر مغميين / عيَّطي يا بهيّة على القوانين... و قابلت "سهام" (مُناضلة طُلابية)، في كلام إنسان / منقوش ومأثـّر في الجُدران / عن مصر وعن عُمَّال حلوان / مظاليم العهد المعتقلين / عيّطي يا بهية على القوانين...
وقابلت هناك، "مُنذر" و"زياد" / وقابلت كمان "عزت" و"جواد" / أربع أبطال، شنقوا الجلاد / التل يهوذا الفدائيين / زغرطي يا بلدنا لدول مساجين / واسمعي يا بلدنا خلاصة القول / وبقولك أهه وأنا قد القول/ مش مُمكن كده حيحول الحول / على كده والناس يفضلوا ساكتين / خليكوا فاكرين / خليكوا شاهدين / انا رحت القلعة و شفت ياسين".
كان إشعاع هبّات الطُّلاب الديمقراطية، قد انتشر من الجامعة إلى خارجها، وبدأ حراك واسع شمل المثقفين والعُمّال والمهنيين، وباقي فئات المجتمع وطبقاته، يُطالب بالحرب، ويضغط بقوة لاستعادة الأرض السليبة والكرامة المهدورة.. فكانت حرب تشرين أول (أكتوبر) 1973، التي اغتالت نتائجها مؤمرات السياسة الساداتية، الذي لم يلبث أن انقلب على خط "عبد الناصر"، الوطني والتقدمي، وصعَّد من حربه ضد القوى السياسية المُعارضة، وانتهى الأمر باغتياله، على يد جماعات الإرهاب الديني، التي أطلق سراحها، ووجَّهها لمواجهة اليسار في الجامعة والمجتمع!
وقبل أن يرحل "السادات"، في 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977، هبَّت الجماهير الفقيرة، بالملايين، للدفاع عن "لقمة الخبز"، في انتفاضة غير مسبوقة، زلزلت أركان النظام، بعد رفع أسعار السلع الغذائية، ومارست سلطة "السادات" حربا كارثية ضد اليسار المصري و"لابسي قميص عبد الناصر"، وضاق الحصار حولي، وقد كنت أحد أوائل المتهمين بتحريض الجماهير على الانتفاض ضد السلطة الحاكمة، فآثرت الخروج من مصر، وكان مقصدي بيروت، حيث المقاومة الفلسطينية واللبنانية الوطنية، اللتان تخوضان معركة الوجود ضد الإمبريالية والصهيونية وعملائهما.
بيروت قبلة الأحرار
وكانت بيروت آنذاك، قبلة كل أحرار العالم ومناضليه، من كل بلدانه وقاراته، وعمَّقت هذه المرحلة ارتباطي العضوى بالقضية الوطنية الفلسطينية ورموزها الكبيرة، من الاتجاهات الوطنية واليسارية كافة، وبحيث أضحت قضية فلسطين ودحر الصهيونية هي قضية العمر كله، وحتى حينما عدت بعد ذلك إلى مصر، وكان "السادات" قد فعل فعلته الدنيئة، بالذهاب إلى القدس المُحتلة، والارتماء في أحضان العدو الصهيوني، وتكررت مرات اعتقالي، كان "الملف الفلسطيني" حاضرا في كل التحقيقات التي أجرتها السُلطات معي، باعتبارها "جريمة شنعاء" تودي بالمرء إلى التهلكة!
حرّرت المئات من المقالات، إن لم يكن آلافها، وشاركت في المئات من المؤتمرات والمُظاهرات واللجان والتجمعات والهيئات والأنشطة، داخل مصر وخارجها، وكتبت وشاركت في إصدار عشرات الكتب، التي تدافع عن قضية فلسطين، لا باعتبارها قضية شعب آخر اسمه شعب فلسطين، له الحق فى الوجود والحياة، وإنما باعتبارها قضيتي أنا، وقضية الشعب المصري الذي أفخر بالانتماء إليه، فالصهيونية، كما أنها خطر على شعب فلسطين، هي خطر داهم أيضا على شعب مصر، وأطماعها تتجاوز أرض فلسطين وتتعداها، إلى كل بلدان الوطن العربي، ومصر: "الكنز الكبير" في بؤرة أطماعها.
فإذا ما سُئلت: "لماذا أنت مع فلسطين؟"، أجيب بقولٍ واحد: لأن فلسطين هي هوية كل أحرار العالم، وجنسيتهم، وإذا كان "مصطفى كامل"، الزعيم المصري، قد هتف ذات يوم: "لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا"، فأنا أفتخر بأن أقول: "لو لم أكن مصريا.. لوددت أن أكون فلسطينيا".
شركس فلسطين.. عانوا التهجير وحافظوا على تراثهم من الاندثار
الحناشي لـ "عربي21": التونسيون أدركوا خطر الصهيونية مبكرا
عبد الباقي.. أسس "البنك العربي" وقاد حكومة عموم فلسطين