يواصل الدكتور عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن ـ جامعة منوبة ـ تونس، حديثه لـ "عربي21"، عن القضية الفلسطينية في وعي النخب التونسية.. ويركز في الجزء الثاني على صورة فلسطين لدى الأحزاب السياسية التونسية قبل الاستقلال.
الأمة التونسية في مقابل الأمة العربية
يمكن النظر إلى موقف الحزب الحاكم في تونس من القضية الفلسطينية، من زاوية الإيديولوجيا التي حكمت مسيرة هذا الحزب منذ تأسيسه عام 1934، إثر الانشقاق الذي حصل في الحزب الدستوري (القديم)، وحتى قيادته للحركة الوطنية التونسية من الثلاثينيات وحتى حصول تونس على الاستقلال السياسي (1955 ـ 1956). فالحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة، كان يدافع عن فكرة "الأمة التونسية" نظرا لعدائه الشديد لفكرة الأمة العربية، ولم يكن ينطلق في تعامله مع ما يجري في فلسطين من القانون العام، الذي يقرر أن مصير تونس ارتبط منذ القرن السابع للميلاد بمصير الأمة العربية ككل، وانطلاقا من إيمانه أن ما تتميز به تونس من خصوصية في الإطار العربي، هو دليل على وجود "أمة تونسية" قائمة بذاتها، فإنه يعتبر القضية الفلسطينية وقضايا العروبة إجمالا قضايا غير رئيسية.
ولذلك، فإنَّ مساندة الحزب للقضية الفلسطينية كانت من باب التضامن وليس من باب الانتماء إلى أمة عربية واحدة، وهو يعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني أساسا، وبصفة ثانوية قضية بقية العرب، وهو يرى أن عرب المشرق؛ أي عرب دول المواجهة مع الكيان الصهيوني، مطالبون أكثر من غيرهم من العرب بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين.
في كتابه، الذي يحمل العنوان التالي: "تطور الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية" 1930 ـ 1955، يطرح فيه الدكتور عبد اللطيف الحناشي مواقف الحزب الحر الدستوري من القضية الفلسطينية، فيقول لـ "عربي21": "لقد ظلّت القضية الفلسطينية عالقة لم تتمكّن الإرادة الدولية من حلّها، حتى في إطار الحدود الدّنيا التي استنبطها مجلس الأمن الدولي بعد حرب الأيام الستة، رغم التنازلات الهائلة التي قدّمتها الأطراف العربية، وبذلك تظلّ القضيّة الفلسطينيّة قضية راهنة لا تهم في الواقع الشّعب الفلسطيني وحده ولا العرب عامة، بل هي قضيّة ذات أبعاد إنسانية ودولية".
وأضاف: "من تلك المنطلقات جميعا، يظلّ الاهتمام بها متواصلا في جميع المجالات المعرفية عامّة وفي حقل المعرفة التاريخية خاصة، وذلك بهدف مواكبة التّطورات الجديدة التي عرفها هذا الحقل، سواء على المستوى المنهجي أو على المستوى المعرفي، بالتوازي مع توفّر وثائق أوليّة جديدة تم الإفراج عنها في بعض الدول ذات العلاقة المباشرة، كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وخاصة الدولة الصّهيونيّة إذ استغل بعض المؤرّخين والباحثين في العلوم الاجتماعية تلك الوثائق، وأعادوا كتابة "تاريخ الدولة الصّهيونية" على ضوء تلك الوثائق، مبتعدين عن الرّؤية الرسمية".
وتابع: "كما برزت بعض الدعوات العربيّة والفلسطينيّة تحديدا لكتابة تاريخيّة عربيّة للقضيّة الفلسطينيّة، وإن كنّا لا ندعي القيام بذلك أو الانخراط في تلك العملية، إلا أننا في المقابل نسعى للاستفادة من تلك الكتابات الجديدة، محاولين المساهمة في البحث من زاوية محدّدة حول بعض القضايا ذات الصلة بتاريخ فلسطين بالبلاد التونسية، وتحديدا الانكباب على محاولة فهم تطوّر الخطاب السّياسي إزاء القضيّة الفلسطينيّة، وذلك انطلاقا من مبدأ التراكم في البحث التاريخي.
وتنطلق محاولتنا تلك من عدة حقائق واعتبارات منها:
شدّة اهتمام التونسيّين بالقضيّة الفلسطينيّة، وخاصة منذ أواسط العشرينيات، ثم تكثّف الأمر وأخذ يصل إلى درجات عليا منذ الثلاثينيات. ولم يمنع الاهتمام بالقضايا الوطنيّة من الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة، مقابل ذلك لا نلاحظ اهتماما مشابها للقضايا الخارجية، وخاصة غير العربية من قبل الخطاب السياسي في تونس خلال هذه الفترة المدروسة، إلا بشكل محدود جدا.
أما على مستوى الممارسة، فقد شكّلت تلك القضيّة إحدى أهم شواغل التونسيّين في أغلب مراحل تطوّرها، وتعاطف التونسيّون مع الفلسطينيّين وندّدوا بالسّياسة البريطانية والصّهيونية، وتظاهروا وعقدوا الاجتماعات، وألّفوا لجان الدفاع عن فلسطين، وجمعوا التبرّعات الماليّة لصالح الفلسطينيّين، وتطوّع عدد كبير منهم للقتال إلى جانبهم. بل إن القضيّة الفلسطينية، قد شكّلت في مرحلة من مراحل تطورها، أحد أهم محاور الاختلاف والمزايدة السّياسية بين الحزبين الدستوريين، وحتى داخل الحزب الواحد، وكانت مادة أساسية لأهم الصحف الوطنية التونسيّة في أغلب الأحيان، بالإضافة لانشغال الرأي العام في تونس بأحداثها وتطوّراتها المختلفة.
ووفق الحناشي، فإن مئات من الشباب التونسي انخرطوا بعد الاستقلال في حركة المقاومة الفلسطينية وناضلوا في صفوف أغلب منظّماتها، سواء في الدول العربية أو في بعض الدول الأوروبية، واستشهد العشرات منهم في عدة ساحات، وتعرّضت تونس للعدوان الإسرائيلي في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1985، حيث قامت الطائرات الإسرائلية بغارة جوية على حمّام الشط، خلّفت العشرات من الشهداء التونسيّين والفلسطينيّين، وقد أثبتت تلك العملية، حتى بالنسبة للّذين كانوا يعتقدون أنهم بعيدون عن عدوانية "إسرائيل"، أن ساحة الصراع في التفكير الاستراتيجي الصهيوني غير محدّدة من خلال القرب من بؤرة الصراع أو البعد عنها، إنما هي ممتدة أينما وجد العرب وأينما وجدت مقاومة عربية للمشروع الصهيوني.
اقرأ أيضا: أكاديمي تونسي: الصدام الناصري ـ البورقيبي منطلق وَعْيِنَا بفلسطين
كيف دخل عصفور دائرة الصراع العربي-الإسرائيلي؟!
سيرة العلامة اللغوي الغزي أبو المعالي أحمد بسيسو (1825- 1911)
أكاديمي تونسي: الصدام الناصري ـ البورقيبي منطلق وعينا بفلسطين