أواصل تتبع سير الأولين من أعلام
فلسطين، لسبر أغوار
الهوية الفلسطينية كما تشكلت في كتب وتجارب الأولين من النخب الفلسطينية.. فأنا واحد من الذين يعتقدون أن الهوية كيان يتشكل بالتراكم، ومن هنا عمدت إلى العودة للتاريخ أقلب في سير الأولين عن معالم الهوية الفلسطينية، التي تتقاطع في المرجعية مع هوية غالبية العرب والمسلمين، وإن كانت للتجارب الذاتية معالمها بحكم فعالية الزمان والمكان.
هو شيخ العلماء وكبير مشايخ الصوفية في غزة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر العلّامة الشاعر الأديب الكاتب المصنف
اللغوي النحوي أحمد أبو المعالي ابن الحاج بن سالم بسيسو. ولد في حي الشجاعية بغزة حوالي سنة 1825م، ونشأ فيها وتربى في حجر والده وحفظ القرآن باكراً وانخرط في الطرق الصوفية وخدمها وهو حديث السن. وأخذ الطريقة الخلوتية البكرية عن العلّامة مفتي الشافعية الشيخ محمد نجيب النخّال، الذي رثاه بسيسو لدى وفاته بمرثيتين، الأولى مطلعها:
قفا واذكرا عهداً مضى مع أحبّة بطيب صفاء مع وثيق محبة
والثانية أولها:
عفا جانب الأفضال من دار غزة بفقد إمامٍ في بهاء وعزة
درس في الأزهر منذ سنة 1845م لمدة عشر سنوات على يد كبار علمائها، مثل العلّامة الشيخ خليل الرشيدي، ومفتي الديار المصرية الشيخ أحمد التميمي الحنفي (الفلسطيني، والد الشاعر والأديب محمد التميمي)، ومفتي مكة المشرفة الشيخ محمد الكتبي، وشيخ الأزهر الإمام إبراهيم الباجوري، وغيرهم. وعاد إلى غزة حاملاً الإجازات والأسانيد من علماء الأزهر وأخذ من مصر أيضاً الطرق الصوفية عن كبار مشايخها، ومنهم شيخ من لبنان هو محمد القاوقجي الطرابلسي (من أسلاف قائد جيش الإنقاذ في النكبة فوزي القاوقجي).
في غزة بدأ التدريس ونشر العلم والطريقة الصوفية، ثم نشر طريقته في الخارج عبر رحلات قام بها إلى مصر وغيرها. ونشر الخلفاء والنقباء في البلاد حتى بلغ عدد مريديه أكثر من عشرين ألفاً.
في فلسطين، تولى في البداية الكتابة في المحكمة الشرعية، ثم الإمامة والخطابة والتدريس في مسجد شهاب الدين، ثم تولى رئاسة مجلس المعارف (التربية والتعليم)، ثم استقال منها واعتذر أيضاً عن رئاسة مجلس الأوقاف وقال فيها:
إن المعارف لا تكون معارفاً حتى ثُصان عن التداخل والطمع
فقد كان معروفاً بالزهد والقناعة والحلم والتواضع ولين الجانب والفطنة وقوة الذاكرة واتساع الحافظة. حج للبيت الحرام أربع مرات، وكان ميسوراً ورزق بذرية واسعة، وكان شيخ طريقة ينهى أتباعه الصوفيين عن ممارسة البدع والأذى.
تفرغ في خواتيم حياته للتصنيف والتأليف والإفتاء، حتى توفي عن عمر قارب التسعين عاماً في سنة 1911م.
ظهرت للشيخ بسيسو عدة مؤلفات فقهية وعقيدية وصوفية ولغوية، كان ضليعاً في العلوم النحوية والأحاجي اللغوية "ألغاز ابن هشام"، وقد اطلعت على بحث في الجامعة الإسلامية في غزة بعنوان "الشيخ أحمد بسيسو نحوياً" فيه الكثير والعميق من علم النحو العربي. غير أن ما يهمّنا هنا أن الشيخ اهتمّ بتدريس العَروض أيضاً، وأصدر كتاباً بعنوان "مزيل الخفا والغموض عن مهمات علم العروض"، وديوان شعر ضمَنه أشعاره الصوفية والوجدانية، وبعض قصائد الرثاء، مثل رثائه للشيخ صالح السقا النويري (العالم والمفتي الأزهري وقاضي غزة المتوفى سنة 1854). وقد ثبَتها في فصل المراثي في ديوانه.
يقول في مطلعها:
ألا حدّثاني عن مسير أولي الخيرِ من كان هذا العزم منهم على السير
وكيف بهم سار النجائب هل ترى رسيماً غدا ذا السير في حومة البرِ
وختم قصيدته في فقد العالم المدرَس:
كم جاء بالتوضيح في كل غامض وكم أبدى للطلاب شاردة الدرّ
فذا صالحٌ للقا أكبر عالم مقيم لهذا الدين بالنهي والأمر
وأضحت دروس العلم ثكلاء بعده وسعد العلى يلفى لذاك أخا الفقر
وقد هان في ذي الناس كل ملمة ولا فقد أهل الفضل والخير والبر
وكذلك مرثيَته الطويلة للشيخ محمود سكيك، فقال:
حزني على هذا الإمام طويل والدمع من جفني عليه هطيل
من فقده ما لذّ لي عيش ولا شمت السهاد، وإنني لثكيل
وختمها بقوله:
لبى ندا الداعي إلى دار البقا وله الرضا ربي الدوام ينيل
لكنه أبقى لنا من فقدِهِ حزناً يدوم على القلوب ثقيل
فالله يوليه الرضا وكرامة في دار خلدٍ للهمام مقيل
وتنتشر قصائده في كتاب "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة" في الجزء الثالث والجزء الرابع، في تراجم مشايخه ومعاصريه الذين رثاهم في قصائده مثل الشيخ عبد المجيد البورنو الحنفي:
إلى الله نشكو ما نرى من نوائب وما قد دهانا من شرور المصائب
حتى يقول:
فذاك إمام العلم عبد المجيد من بأفضاله قد حاز خير المناصب
على فقده تبكي الدروس تأسفاً فكم درس علم شاد بين الكتائب؟
عليه من الرحمن واسع رحمة وخير جزاء فهم أعظم واهب
*كاتب وشاعر فلسطيني